الحضارة السومرية وعلاقتهم بالكورد .

الحضارة السومرية وعلاقتهم بالكورد .

بقلم : جمال حمي

الحضارة السومرية هي أقدم حضارة بشرية عرفها التاريخ والتي أقيمت في بلاد الهلال الخصيب – موزوبوتاميا قبل ستة آلاف سنة ، وأخذت الحضارة السومرية حيّزاً كبيراً من عقول العلماء والباحثين وشغلتهم كثيراً وحصلت على اهتمامٍ بالغٍ منهم وحيّرتهم قضية معرفة المكان الذي هاجر منه السومريون الى منطقة بلاد مابين النهرين وأطلقوا عليها اسم ” القضية السومرية ” وقال بعضهم لربما نزلوا من جبال فارس الى هذه المنطقة ، لكن أغلب الظن بأنهم لم يهاجروا من أين مكانٍ بل كانوا من السكّان الأصلاءِ في منطقة مابين النهرين ، ويعتقد بعض الباحثين الكورد بأنهم كانوا أسلاف الكورد ، وهم أحفاد الذين نجوا من الغرق من الطوفان العظيم ، ومن الذين كانوا يسكنون الكهوف في جبال زاغروس ، حيث لم تطئها غير أقدام الكورد منذ فجر التاريخ ، فتحولوا من حياة الكهوف ومن حياة العصر الحجري الى حياة الرعي والزراعة وكانوا أول من دجّنوا الحيوانات وقاموا بتربيتها وقاموا أيضاً بزراعة القمح وغيرها وباتوا يتجهون أكثر نحو المدنية والتحضّر ، فإنتشروا وتوسعوا وأسسوا الحضارية السومرية ، فأغلب الظن أنهم كانوا من الكورد ، وهنالك دلائل كثيرة تثبت ما ذهبنا اليه من اعتقاد .

وبما أن اللغة التي كان يتحدث بها السومريون كانت معقدة ولا تنتمي الى بقية اللغات التي عرفت آنذاك ولم تتفرع عنها وحيّرت العلماء كثيراً ، فهذا دليل على أنهم من سكّان بلاد مابين النهرين الأصلّاء ( كوردستان ) ولم يهاجروا اليها من أي منطقة أخرى كما ذهب اليه بعض المؤرخين من الإعتقاد والظن ، ولم يحتكوا بشعوب أخرى الا فيما بعد ، ولعل وجود الكثير من الكلمات الكوردية في اللغة التي كان يتحدث بها السومريون دليلاً آخر على أنهم كانوا من الكورد ، فلا يزال الكورد الفيليون في العراق والى اليوم يستخدمون مفردات من اللغة السومرية القديمة ، ويمكننا هنا أن نذكر لكم بعضها على سبيل المثال وليس الحصر ومن باب ايراد الأدلة .

Ga باللغة السومرية تقابلها في الكوردية نفسها Ga أي ثور ، وكلمة kala في السومرية تقابلها في الكوردية Kal أي عجوز أو مسن ، وكلمة Lo في السومرية تقابلها في الكوردية أيضاً Lo أي الرجل ، وكلمة Gel بالسومرية تقابلها في الكوردية Gel أي الشعب ، وكلمة Gishto بالسومرية تقابلها في الكوردية Gişti أي عام ، وكلمة Go في السومرية تقابلها في الكوردية Got أي قال ، وكلمة Did في السومرية تقابلها في الكوردية Diddo أي رقم ٢ ، وكلمة shesha في السومرية تقابلها في الكوردية Şeş أي رقم ٦ ، وكلمةSergar في السومرية تقابلها في الكوردية Sekar أي رئيس العمل ، وغيرها الكثير من الكلمات ، وهنا وجب التنبيه أن الكورد الآن يكتبون لغتهم بالحروف اللاتينية والعربية أيضاً ، بينما السومريون كتبوا لغتهم بالأحرف المسمارية .

ان كلمة ” الكورد ” كتسمية كانت موجودة ومكتوبة في الألواح السومرية القديمة و التي اكتشفها علماء الآثار ، فقد قال باحث الآثار الفرنسي جان ماري دوران سنة ١٩٩٧ م بعد ترجمته لعدة ألواح سومرية والتي تتعلق بالممالك التي شهدتها كوردستان ابّان الوجود السومري ، يُشاهد في هذه الألواح السومرية اسم إمارة (كوردا- Kurda) بكل وضوح ، وهي التي كانت في جبل شنگال (سنجار) في كوردستان ، وقد جاءت في وثائق مراسلات قصر ماري – المجلد الأول صفحة رقم ٦٤٥ مطبعة سيرف باريس ١٩٩٧ م والمجلد الثاني في الصفحة رقم ٦٨٨ ، وهو يتحدث عن إمارة (كوردا) في الصفحات ” ٦٠ – ٣٩٣ – ٤١٤ – ٤١٥ – ٤١٦ – ٤٢٣ – ٤٢٧ – ٤٣٣ – ٥٠٣ – ٥١٥ – ٥١٧ – ٦٠٤ – ٦٠٥ – ٦١٧ – ٦٢٢ ”
وهذا ما تم ترجمته لبضعة ألواح سومرية فقط موجودة في متحف ( Musée Louver ) في باريس ؟
فماذا لو تم ترجمة ١٣٠ ألف لوحٍ سومريِّ من الطين تم اكتشافها في بلاد ما بين النهرين أي في كوردستان وموجودةٌ في متحف (British Museum) في بريطانيا منذ عشرات السنين ؟

قامت الدكتورة الألمانية ” هانالورا كولخر ” بتقديم أطروحتها لنيل شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع و الفلسفة من جامعة برلين عام ١٩٧٨ م ، واعتمدت على المصادر العلمية و التاريخية العديدة بأن أول ذكر للفظ (الكورد- Kurd) جاء في بعض الرُقم و الوثائق السومرية في (الألف الثالث) قبل الميلاد ، وأن يكون هنالك اليوم اختلافات كبيرة في اللهجة التي كان يتحدث بها السومريون الذين نعتقد بأنهم كانوا من الكورد وبين اللهجات الكوردية المعروفة اليوم ، فهذا أمرٌ بسيطٌ يمكن تفسيره بشكل منطقي ، فأنا مثلاً أتحدث باللهجة الكوردية المعروفة ” بالبوطية ” وهي لهجة الكورد في جزيرة بوطان وهي مدينة كوردية تقع في كوردستان الشمالية ، وزوجتي تتحدث باللهجة الكوردية المعروفة ” بالغربية ” والتي تنتشر في منطقة الحسكة وقامشلو وعامودا في كوردستان الغربية ، وأولادي يتحدثون بلهجة كوردية هي عبارة عن مزيج عن لهجتي ولهجة زوجتي ، اضافة الى بعض المفردات الأخرى التي اكتسبوها من أصدقائهم الكورد الذين يتحدثون بلهجات كوردية أخرى ، فنتج عن ذلك لهجة هي خليط من عدة لهجات كوردية ، وهذا التغيير حصل في غضون بضعة سنوات تُعدّ على أصابع اليد ، فكيف الحال بنا هنا ونحن نتحدث عن ما لايقل عن ٦ آلاف سنة تفصلنا عن عصر السومريين ، حصل فيها اختلاط وتزاوج ونزوح من منطقة الى أخرى وتعرضت فيها منطقة بلاد مابين النهرين الى الغزو عبر التاريخ كله ، فالتغيرات والإختلافات في اللهجات وحتى في أصل اللغات هو أمر طبيعي نتيجة الإختلاط والتزاوج ونتيجة مرور العصور والأزمان ، لا ينكرها الا من سفه عقله .

أما بالنسبة لقضية اختلاف حروف الأبجدية مابين الأحرف المسمارية التي كانت تستخدم من قبل السومرين وبين الأحرف اللاتينة والعربية التي يستخدمها الكورد اليوم ، فهذا أيضاً أمر يسير علينا تفسيره ، فهذه التغييرات في انتقاء أشكال الأحرف الأبجدية لدى الشعوب ، غالباً ماتكون لغايات وأهداف سياسية ، فالأتراك مثلاً ، كانوا يستخدمون الأحرف العربية في كتابة لغتهم في العهد العثماني ، وبعدما أطاح العلمانيون الأتراك بالدولة العثمانية وأسقطوها بدعمٍ من الفرنسيين والإنكليز وغيرهم من الحلفاء الغربيين وبقيادة كمال مصطفى آتاتورك ، قرر هذا الأخير استبدال الأحرف العربية بأحرف لاتينية وتم تثبيتها في الدستور التركي .

والكورد أيضاً كغيرهم من شعوب العالم ، مرت لغتهم والأحرف التي استخدموها في كتابتهم للغتهم بمراحل عديدة ، فقد استخدموا الرسومات للتعبير والكتابة عندما سكنوا الكهوف وعاشوا في العصر الحجري ، ثم اخترعوا الأحرف المسمارية واستخدموها في كتاباتهم ثم الأحرف الآفستائية والآرامية و(الماسي سورتية) والأزداهية والبهلوية والعربية والأرمنية والروسية وآخرها كانت الأحرف اللاتينية ، فكل شيء قابل للتحديث والتطوير بما فيها اللغة وطريقة كتابتها ، وهذا أمر طبيعي وليس دليلاً على أن السومريون ليسوا أسلاف كورد اليوم كما يدعي بعض الشوفينيين من العرب ، أما لماذا عُرفت الدولة السومرية بهذا الإسم ولم تشر صراحةً الى اسم الكورد ، فهذه أيضاً من الأمور التي يمكن تفسيرها بسهولة .

غالباً ماتُطلق أسماء على الممالك والدول قديماً وحديثاً أسماء تشير الى من بناها وأقامها وتحمل أسمائهم ، وليس بالضرورة أن تشير الى عرق وقومية الشعب الذي أنشأها ، ويمكننا هنا أن نذكر أمثلة كثيرة على ذلك ، فمثلاً : المملكة العربية السعودية ، وغالباً مايقال لها السعودية كإختصار وتعريف بها ، وهي تعود نسبة الى آل سعود الذين بنوا هذه الدولة وآقاموها ، فليس بالضرورة أن يكون كل العرب في السعودية سعوديون ، لكن السعوديون بالضرورة عرب ، وكذلك يمكننا القياس على الدولة الأموية التي نسبت الى الأمويين مع أنهم كانوا من العرب فعرفت بالدولة الأموية ولم تعرف بالدولة العربية ، وكذلك أيضاً الدولة العباسية والدولة الأيوبية نسبةً الى صلاح الدين الأيوبي الكوردي مؤسس هذه الدولة ، وكذلك أيضاً الدولة العثمانية والتي نسبت الى جدهم الأكبر ” عثمان ” مع أنها كانت دولة تركية ، اذاً ليس بالضرورة أنه مادامت الدولة السومرية لم تشر في عنوانها العريض الى العنصر القومي الكوردي صراحةً أن تكون غير كوردية ، فربما تسمية السومرية تعود الى اسم العشيرة أو القبيلة التي أسست هذه الدولة ، والأمثلة في هذا الصدد هي أكثر من أن نحصيها .

هنالك دلائل ومؤشرات قوية وكثيرة تدل على أن هنالك ارتباطاً وثيقاً بين السومريين وبين الشعب الكوردي المنتشر حول العالم اليوم ولاسيما في الدول التي تضم جزءًا من كوردستان أرضاً وشعباً ( سورية تركيا وايران والعراق ) وتدل على أن السومريون كانوا جزءّاً لا ينفصم عن الشعب الكوردي ، وتدل على أن السومريين هم أسلاف كورد اليوم ، ولم يكن السومريون وحدهم الكورد قبل ٦٠٠٠ سنة بل سبقهم غيرهم ، حيث يقول يؤكده المؤرخ البروفيسور “سبايزر Speisere” الذي ترجم بعض الألواح المسمارية في كتابه المسمّى “شعوب ما بين النهرين” صفحة ٩٩ ، بأن العناصر الغوتية (أسلاف الكورد) كانت موجودة في جنوب العراق قبل تأسيس سومر وأسسوا بلاد سومر فيما بعد وشكلوا الحكومات فيها ، ويقول الدكتور الكوردي ” مهدي كاكه يي ” وهو مختص في الشؤون الكوردية التاريخية في مقال له نشر في موقع الحوار المتمدن في تاريخ ٢٢ – ١٠ – ٢٠١٣ ان جميع المؤرخين وعلماء الآثار و الباحثين يقولون بأن السومريين كانوا من الأقوام غير السامية ، ونقل الدكتور مهدي عن مقدمة كتاب المؤرخ صمويل كريمر (Samuel Noah Kramer) المعنون “من ألواح سومر” المُترجَم الى اللغة العربية من قِبل الدكتور طه باقر ، يذكر المترجم في صفحة ٨ ما يلي: وجلّ ما يمكن قوله بهذا الصدد أن مَن نُسمّيهم بالسومريين في تاريخ وادي الرافدَين، كانوا قوماً ليسوا من الأقوام السامية ، فالأقوام السامية هي تلك الأقوام التي تكلمتْ بإحدى اللغات السامية كالأكدية والبابلية في العراق والأمورية والكنعانية والآرامية والعبرانية في ربوع الشام والجزيرة العربية ، بل أن لغتهم هي من اللغات غير السامية .

يستطرد الباحث الكوردي ” مهدي ” نقلاً عن المؤرخ طه باقر في حديثه بأن الباحث الإيرلندي “هنكس” يقول بأن الخط المسماري أوجده قوم غير ساميين، بل أن هذا القوم سبق البابليين الساميين في إستيطان وادي الرافدَين ، و نشر الباحث الإنكليزي الشهير “هنري رولنسون” بحثاً في عام ١٨٥٥ م في مجلة “الجمعية الآسيوية الملكية” يذكر فيه بأنه إكتشف كتابةً جديدةً بلُغةٍ غير سامية وجدها مدوّنة في الآجر وفي ألواح الطين في بعض المواقع القديمة في بلاد ما بين النهرَين مثل “نفر” و”لارسا” و”الوركاء” في عام ١٨٥٦ ذكر الباحث الإيرلندي “هنكس” بأن هذه اللغة الجديدة هي من نوع اللغات الإلصاقية وفي عام ١٨٦٩ م أطلق الباحث الفرنسي “أوبرت Oppert” على هذه اللغة الجديدة “اللغة السومرية” لأول مرة .

ويتابع الدكتور ” مهدي ” القول في نفس المقالة ، ويذكر كل من الدكتور طه باقر والدكتور عامر سليمان بأنه عند هجرة الأكاديين الى شمال وادي الرافدين (جنوب كوردستان الحالي) في أواخر الألف الثالث قبل الميلاد، كان السومريون و السوباريون يعيشون هناك وكانت المنطقة تُسمى ب”سوبارتو” ويضيف المؤرخان المذكوران بأنه جاء ذكر السوباريين في النصوص المسمارية منذ عصر فجر السلالات (طه باقر: مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة. الجزء الأول، الوجيز في تاريخ حضارة وادي الرافدين، الطبعة الأولى، بغداد، ١٩٧٣ ، صفحة ١٢٠ و ٤٧٦ عامر سليمان : العراق في التاريخ القديم، الموصل، دارالحكمة للطباعة والنشر، ١٩٩٢ ، صفحة ١١٩ ومن هنا نرى أن الموطن الأصلي للسومريين هو كوردستان وأنهم من أقوام جبال زاگروس التي هي الموطن الأصلي للكورد و أن السومريين هاجروا من كوردستان الى جنوب بلاد ما بين النهرَين وبنوا حضارة راقية هناك .

ويتابع الدكتور ” مهدي ” وفي نفس المقالة آنفة الذكر ، ويذكر المؤرخ الدكتور بهنام أبو الصوف في إطروحته التي نال عليها شهادة الدكتوراه من جامعة كامبرج البريطانية في عام ١٩٦٦ ، بأن السومريين لم يأتوا من خارج بلاد ما بين النهرَين، بل كانوا في منطقة سوبارتو وأن هذا الشعب في زمنٍ ما إنتقل الى الجنوب ونقل معه حضارته ، ما يدعم كلام المؤرخ بهنام أبو الصوف هو أن إنشاء حضارة زراعية متطورة و إختراع الكتابة من قِبل السومريين، يدلّان على أنهم كانوا يمتلكون أسس حضارية قبل إنتقالهم الى جنوب بلاد ما بين النهرَين ، هذا يدل على أن السومريين كانوا جزءً من أسلاف الكورد الزاگروسيين الذين إنتقلوا من كوردستان الى جنوب العراق الحالي، حيث أنّ أسلاف الكورد الزا گروسيين هم أول مَن قاموا ببناء الحضارة في المنطقة وأن بوادر الحضارة ظهرت على أرض كوردستان .

يعتقد بعض المؤرخين بأن السوباريين والسومريين ينتمون الى أصل واحد وأنهم مرتبطون مع البعض بصلة القرابة أو على الأقل أنهما كانا يعيشان معاً في شمال بلاد ما بين النهرَين قبل إنتقال السومريين الى جنوب بلاد ما بين النَهرَين وإستقرارهم هناك (الدكتور نعيم فرح: معالم حضارات العالم القديم، دارالفكر، صفحة ١٩٨ ) يذكر الدكتور نعيم فرح في كتابه المذكور أيضاً بأن السومريين و السوباريين ينحدرون من الگوتيين (أسلاف الكورد) الذين كان موطنهم سلسلة جبال زاگروس ، تعضيداً لوجود صلة القرابة بين السوباريين والسومريين هو أن أسماء كثير من المدن السومرية لم تكن أسماء سومرية، بل سوبارية، أمثال مدن: أور، أريدو، أوروك، سِپار، لارْسا، لَگَش، و كلمة “باتيس – باتيز”، التي تعني “الملِك” وغير ذلك من المفردات المشتركة بين اللغتين، حيث أن الكثير من الكلمات السومرية قد تكون كلمات سوبارية (الدكتور سامي سعيد الأحمد: السومريون وتراثهم الحضاري، منشورات الجمعية التاريخية العراقية، بغداد، ١٩٧٥

ويستطرد الدكتور ” مهدي ” قائلاً ، هناك وجود تشابه كبير بين تركيبة اللغة السومرية والكوردية، حيث أن كلاهما لغتان إلصاقيتان، يتم فيهما تركيب كلمات مركبة من كلمتَين أو أكثر من الكلمات البسيطة، على سبيل المثال إسم “مدينة أوروك” (الوركاء السومرية) التي تقع أطلالها على بُعد ستين كيلومتراً من مدينة السماوة، مؤلف من كلمتين هما (آور) التي تعني (نار) و (گا) تعني (محل) وبجمع الكلمتين في كلمة واحدة يصبح معناها (الموقد). في اللغة الكوردية تُعطي هذه الكلمة المركبة نفس المعنى السومري ، من جانبٍ آخر فأن اللغة الكوردية لا تزال تحتفظ بكثير من الكلمات السومرية رغم مرور آلاف السنين على إنقراض اللغة السومرية، لدرجةٍ أن إسم بلاد سومر لا يزال باقياً في اللغة الكوردية و يُعطي نفس المعنى، حيث أن إسم بلاد سومر باللغة السومرية الذي تتم كتابته بالخط المسماري ، هو (كي إن جي Ki -en –gi) الذي يعني “البلاد السيدة” (عامر سليمان، وأحمد مالك الفِتْيان: محاضرات في التاريخ القديم، ١٩٧٨ ، صفحة ٢٥ ، هذا الإسم في اللغة الكوردية يعني “بلاد سادة الأرض” .

ثم قام السومريون ببناء معابدهم على أماكن مرتفعة شبيهة بالجبل (زَقُورة) ورسموا الأشجار الجبلية، والحيوانات الجبلية كالوعل والماعز على الأختام الأسطوانية التي كانوا يصنعونها (فاضل عبد الواحد علي: من سومر إلى التوراة، صفحة ٢٢ ، سامي سعيد الأحمد: السومريون وتراثهم الحضاري، صفحة ٤٢ ، ٨٢ ) كل هذا دلائل على أصلهم الجبلي، حيث كانت جبال زاگروس الموطن الأصلي لهم ، كما أن هناك مشتركات كثيرة في العقائد بين السومريين و الكورد .

ويتابع الدكتور ” مهدي ” القول نقلاً عن الدكتور طه باقر في مقدمته لكتاب صمويل كريمر و الذي ترجمه الى العربية، بأن السومريين على ماهو مجمع عليه، المؤسسون الأوائل لمقومات الحضارة والعمران ومنهم إقتبس الساميون في بلاد ما بين النهرين أصول حضارتهم ولا يقتصر تراثهم الثقافي بكونه أساس حضارة وادي الرافدَين، بل أنهم أثرّوا في جميع شعوب الشرق الأدنى و يتجلى ذلك في مجالات عديدة، حيث أن السومريين كانوا أول مَن أوجد و طوّر الكتابة التي عُرفت بعدئذٍ بالخط المسماري وهو الخط الذي إقتبسه معظم شعوب الشرق الأدنى القديم (صمويل كريمر: من ألواح سومر، ترجمة الدكتور طه باقر، مكتبة المثنى، بغداد ومؤسسة الخانجي بالقاهرة، ١٩٧٠ ، صفحة ٩ – ١٣ .

تميّز السومريون بالإبداع في الحضارة المادية كأسس العمارة والفنون و النظم الإجتماعية والسياسية والى غير ذلك من مقومات الحضارة التي أثرّت بشكل كبير في تقدم شعوب الشرق الأدنى. كما أن السومريين أوجدوا آراءً و تصورات و أفكاراً في الديانة و في المجالات الروحية و العقلية الأخرى، وأن الكثير منها دخلَ الى معتقدات الديانة اليهودية والمسيحية وإنتقل الكثير منها الى الحضارة الحديثة. أنتج السومريون نتاجاً أدبياَ أصيلاً الذي كان معظمه شعراً و كان تأثيره عميقاً في الأقوام القديمة وإستمر تأثيره الى الحضارة الحاضرة.

إبتكر السومريون الكتابة في جنوب بلاد ما بين النهرَين في حوالي عام ٣٠٠٠ قبل الميلاد وبذلك بدأ عصر التدوين الذي من خلاله إستطاع الباحثون الإطلاع على الحضارة السومرية والحضارات التي تلت هذه الحضارة ، وأهم الأعمال التي قام بها السومريون هي إختراعهم للكتابة والأرقام وإبتكارهم للمدن ، والسومريون هم أول مَن إخترعوا الكتابة والأرقام والتي أخذتها الأقوام الأخرى منهم، حيث أننا لو تصفحنا الكتب الغربية التي تدرس تأريخ تطور اللغات والأرقام في العالم، لنرى أنها تذكر ذلك وتؤكد عليه ، فالسومريون بنوا حضارة متقدمة، حيث طوروا الزراعة والري وإخترعوا المحراث والدولاب والعربة ومخرطة الخزف والقارب الشراعي والبرمشمة واللحام والدهان وصياغة الذهب والترصيع بالأحجار الكريمة وعمارة القرميد العادي والمشوي وإنشاء الصروح وإستعمال الذهب والفضة في تقويم السلع وإبتكروا العقود التجارية ونظام الإئتمان ووضعوا كتب القوانين، وهم أول من إبتكروا الطابوق كوحدة معمارية مصنعة بدل الحجر .

كما يُحدّثنا التاريخ أيضاً بأن السومريين تمسكوا بالحق والعدالة والحرية الشخصية وكرهوا الظلم والعنف، حيث وضعوا القوانين لتنظيم حياتهم على ضوء هذه المبادئ الإنسانية ، برع السومريون في علوم الموسيقى، حيث أن التنقيبات الأثرية في مدفن زوجة ملك أور، الملكة شبعاد، التي قام بها علماء الآثار البريطانيون في عام ١٩١٨ م، قادت الى العثور على مجموعة من العازفين مع ١١ قيثارة، إضافة لقيثارة كبيرة مكونة من ٣٠ وتراً وهي القيثارة السومرية ، الحضارات اللاحقة قد أخذت معظم العلوم ومنها الموسيقى من الزقورات (أماكن العبادة)، (زقورة أور وزقورة دوركاريكالزو) الواقعة غرب بغداد وكانت زقورات وادي الرافدين قُبلة لأنظار الناس ومنها إستلهم المصريون أهراماتهم وهياكلهم الأولى (ب. ليرخ: دراسات حول الأكراد وأسلافهم الخالديين الشماليين. ترجمة الدكتور عبدي حاجي، ١٩٩٢ م . انتهى الإقتباس

لاشك أن الحضارة السومرية العريقة والموغلة في التاريخ والتي هي جزء من حضارة الشعب الكوردي العريقة في بدايات التاريخ بعد الطوفان العظيم و التي نشأت في بلاد مابين النهرين قبل ٦ آلاف سنة ، هي أقدم حضارة في تاريخ الإنسانية، فهي تحتوي على الكثير من الأسرار التي لم تكتشف كلها بعد ، وكان لها الأثر الكبير في نشأة وتطور الحياة والإنسان ، و وامتدت بعد ذلك إلى ماتعرف اليوم بدولة ( سورية ) ومنطقة الخليج العربي أيضاً ، وتمكنوا خلال قرون من إقامة الدولة التي نمت وتطورت في حضارتها وعلومها ومعمارها وفنونها ، وسبقت حضارة الفراعنة بكثير ،
و تطورت حضارة سومر وبرع أهلها في الهندسة، حيث شيدوا المدن الشهيرة عبر التاريخ وهي: (أور، لارسا، ونيبور) وغيرها، كما بنوا العديد من القصور الضخمة والأروقة، وقاموا بتخطيط المدن الكبيرة، وبهذا أصبحت الحضارة تبني القرى والمدن، وتعمل بالتجارة والثقافة والتراث، وقاموا بسن القوانين والأنظمة ونشروها، كما عرفوا الفنون التشكيلية والموسيقى، حيث أنهم اخترعوا الآلات الموسيقية البدائية، وتعتبر الحضارة السومرية هي من نظّمت السلم الموسيقي، كما كونوا فرقا للإنشاد في المناسبات وفي دور العبادة ، كما أبدع السومريون في مجالات أخرى متعددة كالصناعة والتجارة والفنون وإدارة شؤون الدولة، وكانت لهم القدرة في صنع المجوهرات، وسبائك الذهب والفضة، بالإضافة إلى أن السومريين هم أول من استطاعوا بناء السفن الضخمة، ورسموا خرائط البحار والمحيطات، كما أتقنوا فن الملاحة، وجابوا حول العديد من الأماكن حول العالم.

ويعود الفضل في وضع التقويم الشمسي والقمري إلى الحضارة السومرية، فهم أول من عرف علم الفلك، ومن خلاله اكتشفوا مواعيد الفصول السنوية الأربعة، وقاموا بصنع العدسات المقعرة والمحدبة والمرايا المنعكسة، حيث عثر على خاتم يعود إلى الحضارة السومرية، منقوش عليه خارطة تبين المجموعة الشمسية، وتوضح عدد الكواكب العشرة بالإضافة إلى الشمس والقمر، وتبين موقع كل منها وبأرقام حسابية دقيقة، حيث كانوا يعتبرون الشمس والقمر كوكبين، وبذلك يصبح المجموع اثني عشر كوكبا ، وقد عثر على صحيفة حجرية منحوتة تعود إلى الحضارة السومرية تسمى “صحيفة الملك”، وتحتوي على أخبار وتفاصيل الحضارة السومرية، وهي منقوشة على الحجارة، وتوضح أن السومريين كانوا قد قسموا التاريخ إلى قسمين، القسم الأول يعود إلى ما قبل طوفان نوح، والقسم الثاني يعود إلى ما بعد الطوفان والحياة الجديدة للبشرية ، وهذا يؤكد على أن حادثة الطوفان كانت حاضرة في أذهان السومريين ومن كان قبلهم ، حتى قبل ظهور الأديان الإبراهيمة كلها ، وهو دليلٌ يضاف الى كل الأدلة التي أوردناها لكم في هذا الكتاب ، وتدل على أن الطوفان العظيم رافق مسيرة الإنسان القديم منذ أن نزل من السفينة التي رست على جبل الجودي ، ووطأت قدماه اليابسة .

كان السومريون مولعون بالعلم والمعرفة وفي اختراع وابتكار أدوات ووسائل متطورة تخطو بهم خطواتٍ سريعة نحو المدنية والتحضر ، ولا أبالغ ان قلت بأنهم كانوا في عصرهم كاليابانيين في عصرنا هذا ، ولا أبالغ أيضاً ان قلت بأنهم أول من وضع اللبنات الأولى لكل هذه الحضارة الإنسانية التي نشاهدها اليوم ونتمتع بها ، فالسومريين هم الأشخاص الأكثر استثنائية الذين عاشوا من أي وقت مضى على وجه الأرض وأنهم بمفردهم اخترعوا الحضارة في الوقت الذي كان معظم بقية العالم ما يزال يعيش في العصر الحجري ، فهم سبقوا الإغريق والرومان والفراعنة وغيرهم .

فقد كانوا أول من اخترعوا العربة التي تجرها الأحصنة من الأخشاب ، وصنعوا الأدوات من النحاس والبرونز وصنعوا القوس والقوارب الشراعية والتقويمات القمرية والساعات الشمسية والمناشير و الأزاميل والمطارق والمسامير والمناجل والمجارف الغراء اللاصق والسيوف والأغماد والدروع والآلات الموسيقية (قيثارة) ، والطوب المجفف بالفرن و بالشمس ) وعجلة الفخار والطباعة والمحاريث والأواني المعدنية للطبخ ، كما اخترعوا الحضارة بالمعنى الحرفي للكلمة. “الحضارة” كلمة رومانية civitas تعنى “المدينة” وكانت أول المدن الكبيرة في العالم هي المدن السومرية .

كما اخترع السومريون أكثر الجوانب الأساسية للحضارة مثل الكتابة والحساب والهندسة والهندسة المعمارية الضخمة وأنظمة الري والزراعة على نطاق واسع وأنظمة الصرف الصحي والمدارس والقواميس والأدب بصورة أنسانية واقعية و المحاسبة التجارية وتقسيم العمل المهني والعسكري ، والانجازات السومرية في الرياضيات مثيرة للإعجاب ولا سيما بالنظر إلى حقيقة أنها تستخدم نظام الأرقام الستيني على أساس العدد ٦٠ ، بدلا من النظام العشري ببساطة قاعدة ١٠ التي نستخدمها اليوم ، فالرياضيات السومرية هي السبب في أننا لا نزال نقسم الدائرة الى 360 درجة .

وقد عُثر على أقدم نص سومري رياضي معروف ، وهو عبارة عن جدول الحسابات التي تبين مجالات ستة مستطيلات حيث الطول هو ٦٠ مرة أكبر من العرض ، و يبدو أن ضرورة وجود الري لمساحات كبيرة من الأراضي الغير الصالحة للزراعة أجبر أولا السومريين لابتكار مجتمعهم الحديث وهذا يتطلب تقسيم العمل تحت إشراف السلطة المركزية (الحكومة) ذلك استلزم أيضا وسيلة لدفع (الضرائب من الحبوب والأغنام والأبقار والبضائع الجافة ، الخ) وطريقةتسجيل هذه المدفوعات الأمر الذي تتطلب اختراع الكتابة وكانت الأرض التي ينبغي تخصيصها للمواطنين مختلفه وحقوق المياه، الطعام الفائض توزيعها على الناس وقد حشدت قوة عاملة كبيرة وسرعان ما تبعه البناء على نطاق هائل (مثل القصور والمعابد العظيمة، وجدران المدينة) جنبا إلى جنب مع تصنيع الضروريات الأخرى الحضارة (أدوات، والملابس والأسلحة والسلع الفاخرة ، والأعمال الفنية ، وما شابه ذلك .

لايمكن أن تقرأ تاريخ السومريين دون أن تبهرك ملحمة جلجامش والتي تعني باللغة الكوردية ( أربعون ثوراً ) والتي تعتبر أقدم قصة كتبها الإنسان على وجه الأرض بحسب روايات المؤرخين وهي ملحمة سومرية كتبت بطريقة شعرية بالخط المسماري تم اكتشافها في القرن التاسع عشر في عام ١٨٥٣م في أحد المواقع الأثرية عن طريق الصدفة، حيث تم اكتشاف ١٢ لوحًا مصنوعة من الطين، وبعد اكتشاف هذه الألواح تم اكتشاف مكتبة كاملة في نينوي في العراق، للملك آشور بانيبال الأشوري، والتي بعد فحصها وجد أنها مكتوبة باللغة الأكادية، وموقعة من قبل شخص يدعى شين مما يعني أنه كاتب هذه الملحمة.

وتحكي هذه الملحمة عن أحد الملوك ويدعى جلجامش وهو ملك أورك، والذي اعتبرته الأساطير ثلثي إله، فوالدته إله ووالده بشر، مما يجعله معرض للفناء فهو ليس بإله كامل، وعندما أدرك هذه الحقيقة وعلم بأن الموت لا محالة منه، بدأ في استخدام ممارسات غريبة وعنيفة مع رعيته، مما جعله ملك مكروه بين شعبه ورعيته الذين طالما رجوا من الآلهة أن تخلصهم من هذا الطاغية الملعون وقد يبدو حسب القصة أن الآلهة استجابت لهم بعد هذا الصراع الطويل مع الملك وقرروا مساعدتهم .

ثم قامت الآلهة أرورو بإنقاذهم من خلال أنكيدو هذا الرجل ذو الشعر الكثيف الذي خلقته خصيصًا من أجلهم، وكان أنكيدو يأكل الأعشاب ويشرب الماء ويقوم بتخليص الحيوانات من المصيدة، مما جعل الصيادين يرفعون شكواهم للملك بما يفعله أنكيدو الذي كبدهم الخسائر، وبالفعل قام الملك بوضع خطة ذكية للتخلص من انكيدو فقام باستدعاء إحدى خادمات المعبد واسمها شمخات على أن تقوم بممارسة الجنس عن طريق إغراء أنكيدو حتى يقع في حبها، وبالفعل نفذت شمخات أوامر الملك وقامت بإيقاع انكيدو في حبها وأقنعته بممارسة الجنس معها وبدأت في تعليمه طريقة الحياة العادية للبشر، كيف يأكل ويشرب ويلبس حتى صار إنسانًا عاديًا، ثم أخبرته بعادة الملك في الدخول بأي فتاة قبل زوجها، وجعلت تسرد الحكايات في قوة جلجامش الذي لا يستطيع أحد أن يقف أمامه، مما استفذ أنكيدو وقرر مصارعة الملك حتى يتوقف عن هذه العادة السيئة .

حدثت المواجهة القوية بين أنكيدو وجلجامش وصارت المصارعة شديدة وقوية فكلاهما قويان بما فيه الكفاية ليقضي أحدهما على الآخر، وكانت النهاية التي حسمت بانتصار جلجامش على أنكيدو واعتراف أنكيدو بذلك، ثم صار الإثنين أصدقاء بعد أن كانوا أعداء لفترة طويلة.

وفي نفس الوقت كان جلجامش يعمل على تخليد اسمه عبر صفحات التاريخ من خلال القيام بأعمال عظيمة وقوية، مما جعله يقدم على تقطيع جميع أشجار الأرز الموجودة في الغابة ولكن عليه أولًا أن يتخلص من الحارس خومبابا ذلك المخلوق الضخم، ويساعده على تنفيذ خطته صديقه الحميم أنكيدو.

يقوم أنكيدو وجلجامش بتنفيذ الخطة والبدء في قطع الأشجار وهو ما جعل حارس الغابة يظهر غضبانًا، ويبدأ الصراع العنيف بين ثلاثتهم والذي ينتصر فيه الصديقان ويقومان بقتل هذا المخلوق على الرغم من توسلاته لهم إلا أنهم يقومون بقتله، مما آثار آلهة الماء أنليل والتي كانت تركت الغابة في مسؤولية خومبابا، بعد هذه الحادثة يصبح جلجامش مشهورًا ممات يجعل الآلهة عشتار تقوم بطلب الزواج منه لكنه يرفض مما يجعلها تثير سخطها عليه، وتطلب من والدها آنو أن ينتقم لها، الذي يقوم بإرسال ثور مقدس لقتل جلجامش إلا أن أنكيدو يستطيع الإمساك بقرني الثور ويقوم جلجامش بقتله، وتصبح هذه الحادثة هي حديث ومثار غضب الآلهة وذلك لقتل جلجامش لهذا الثور المقدس، ولكنهم لا يستطيعون قتل جلجامش لان دماء الآلهة تسري في عروقه فيقررون معاقبة وقتل أنكيدو لأنه اشترك في هذه الفعلة، فيصبوه بمرض قاتل يموت على أثره أنكيدو .

بعد وفاة أنكيدو حزن جلجامش حزناً عميقاً على وفاة صديقه ، ورفض دفنه وبعد أن بدأت الجثة في التحلل قام بدفنه، وانطلق شارداً في البرية باحثاً عن الخلود بعد أن أدرك حقيقة الموت، ولكي يحقق ذلك كان عليه أن يجد “أوتنابشتم” لأنه الوحيد الذي يملك هذا السر، وفي الطريق يقابل الآلهة سيدروي التي تحاول أن تثنيه عن رغبته وتقنعه بأن يعيش الحياة ويترك البحث عن الخلود إلا أنه يرفض فأرسلته إلى الطواف “أورشني” والذي سوف يساعده في عبور بحر الأموات ليصل إلى الشخص المطلوب .

حتى وجد جلجامش أوتنابشتم هو وزوجته فأخبرهم عما يبحث عنه، فقصا عليه طريق الخلود الذي اتبعوه وأن الطوفان قد قضى على جميع أهلهم ولم ينجى أحد منهم سوى هو وزوجته لذلك قرر الآلهة أن يمنحوهم الخلود، ومع إصرار جلجامش على الحصول على الخلود أخبره أوتنابشتم أن عليه أن يظل منتبهًا بدون نوم لمدة 6 أيام و7 ليالي بعدها سوف يصبح خالدًا وهو ما فشل جلجامش في القيام به، وظل يخبرهم أن يحاولوا معه مرة أخرى، فقامت زوجة أوتنابشتم بإخبار جلجامش عن عشب سحر موجود في قاع البحر يعيد إليه الشباب وبالفعل يقوم جلجامش بإحضار هذا العشب، ولكنه لم يتناوله ويقرر العودة به وتجربته على أحد المسنين بأوراك، وفي الطريق يقرر الاغتسال في النهر وأثناء قيامه بذلك تقوم أحد الأفاعي بسرقة العشب وتناوله مما يجعله يود حزينًا، وفي طريقه إلى أورك شاهد السور الذي كان قد أقامه فعلم أن أعماله هي الخلود وهي التي سوف تنقش أسمه على جدران التاريخ فقرر أن يترك فكرة الخلود ويتجه إلى القيام بالأعمال الخالدة حتى أن الملحمة تنتهي بحزن شعب الأورك بعد وفاته . انتهت القصة .

تعد ملحمة “جلجامش” أحسن نموذج يمثل أدب التاريخ القديم ، يصنفها الباحثون ومؤرخوا الأدب من إحدى روائع الأدب العالمي، وهي أطول وأكمل ملحمة وصلت إلينا من حضارات الشرق الأدنى، ولقد دونت هذه الملحمة قبل 4000 عام ق. م، وترجع حوادثها إلى أزمان أبعد، ولقد عالجت هذه الملحمة البطولية قضايا إنسانية عامة، كمشكلة الحياة والموت، ومشكلة الخلود، فقد مثلت الصراع الأزلي بين الموت والزوال وبين إرادة الإنسان المغلوبة في محاولتها التشبث بالوجود والبقاء ، لقد انشغلت الملحمة بموضوع أساسي هو حتمية الموت حتى بالنسبة لبطل مثل “جلجامش”، ثلثاه من مادة الآلهة الخالدة وثلثه الباقي من مادة البشر الفانية، كما حوت الملحمة على موضوعات إنسانية أخرى ، الصداقة والحب والكراهية والأماني والحنين إلى الذكريات والبطولة والحرب والمغامرات والرثاء وأروع رثاء ما قام به “جلجاميش” لصديقه “انكيدو” وبكاؤه عليه .

وعلى الرغم من أن ملحمة ( جلجاميش ) يعتبرها الكثير مجرد اسطورة ، آلا أن اسم جلجاميش ورد في احدى اللوحات الطينية المسمارية على أنه كان أحد ملوك السومرين ، وفي هذا اشارة الى أنها لربما تكون حقيقة وليست مجرد أسطورة ، فالسومريون كانوا يؤمنون بالخرافات بالرغم من ولعهم بالعلم والمعرفة ، وربما هذه من تناقضاتهم ، فالسومريون كانوا أهل شركٍ وأوثان ، يعتبرون ملوكهم نصف آلهه ويعبدونهم !

من كان شغوفاً في قراءة الأدب والشعر والرواية ومتذوقاً لها ويقرأ للعديد من الكتّاب والشعراء والروائيين ، فما أن يقع تحت يديه نص أدبي أو قصيدة أو رواية ودون أن يقرأ اسم كاتبها ، فإنه سيعرف من هو الذي كتبها بعد أن يفرغ منها ، لأن لكل كاتب طريقة معينة في الكتابة تميزه عن غيره من الكتّاب ، ويسمى هذا بالأسلوب الأدبي أو المدرسة الأدبية أو الفكرية أو الشعرية ، والقارئ للأدب الكوردي ولاسيما تلك الروايات والملاحم التي تتحدث عن حالات وجدانية وروحانية تتعلق بالحب العذري النقي ، كقصة ” مم وزين ” و ” خجى وسيامند ” وغيرها الكثير ، والتي تماثلها قصة ” روميو وجيوليت ” في الأدب الإيطالي ، ويقرأ ملحمة ” جلجاميش ” بعدها ، سيدرك بأن كاتبها وراويها كوردي ، لأنها كتبت بنفس الروح المشحونة بالعاطفة الجياشة وفيها سمو روحي كبير .

كما أن اسم ” جلجاميش ” أيضاً هو كوردي بإمتياز ، لأنه يعني وبكل وضوح ” أربعون ثوراً ” والسومريون اهتموا كثيراً بالشمس واعتبروها مصدراً للطاقة الروحية ونوراً للمعرفة ، واستمر الكورد في الإهتمام بالشمس حتى الى مابعد ظهور زردشت ، وبقيت الشمس في أدبياتهم الدينية والروحية وركناً أساسياً من طقوسهم ، والى اليوم نرى بأن الشمس الذهبية تتوسط العلم الكوردي في اقليم كوردستان وحتى بعد اعتناق معظمهم الإسلام ، كما أن ملحمة جلجاميش تحمل عن العناصر الأدبية والوجدانية التي قد نجدها في عموم الأدب الكوردي ، لذا نعتقد بأن من كتب هذه الملحمة كان كوردياً ، والملحمة ذاتها ملحمة أدبية كوردية بكل سياقاتها وجملها وتفاصيلها ، لأنها تحتوي على روحانيات وعاطفة كبيرة .

ولعل الكورد مابعد الإسلام ، كانوا من أكثر المسلمين اهتماماً بالروحانيات الإسلامية ، فأنتجوا عشرات الفرق الصوفية كالنقشبندية والكزنزانية والقادرية وغيرها الكثير ، فكان الكورد منذ بدايات ظهورهم على وجه الأرض يهتمون بالجانب الروحي والعقائدي والوجداني وعبر تاريخهم كله ، وبناءًا على كل هذا نعتقد بكوردية ملحمة جلجاميش ، وهذا يستدعي من المفكرين والمثقفين والباحثين الكورد ، تكثيف جهودهم في التعمق في هذه الملحمة ، واكمال فصول كورديتها ، لأن النصوص الطينية المسمارية السومرية يتم ترجمتها الى الإنكليزية أو الفرنسية ومن ثم تترجم الى العربية ومن العربية تترجم الى الكوردية ! ، وكل هذا التنقل يفقد هذه الكتابات الكثير من معانيها ، ففي الكثير من الأحيان قد لاتحمل الكلمة في الأنكليزية نفس المعنى بالعربية أو تحمل معنى قريب اليها ، لذا فإنها تفقد الكثير من صورها الأدبية والفكرية ، وهذا يتضح جلياً عندما نقوم بترجمة قصيدة كتبت بالعربية الى الإنكليزية أو العكس ، نجد بأنها تفقد الكثير من معانيها ومن صورها الشعرية ، فالترجمة من والى أي لغة تفقد النصوص بعض معانيها ، فمن الأفضل أن يتم اعتماد طريقة يسهل فيها ترجمة النصوص السومرية الى الكوردية مباشرةً ودون وسيط لغوي آخر ، وأن يكون من سيقومون بترجمتها من الكورد أنفسهم ، فلغتهم أقرب الى السومرية من غيرهم ، وبهذه الطريقة سنضمن بأنه لن يتلاعب أحد بهذه النصوص .

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.