تعتبر الأغاني رافدةً مهمة للذاكرة الجمعيّة عند الكرد فالكثير من الأغاني الفلكلورية ما زالت حيّة وحاضرة بقوة في الثقافة الشعبية الكردية وهي نتاج مخزون تراكمي بعضه وصل إلينا والكثير منه ضاع ومنه ما عرفناه وقد أُدخل إليه بعض التغييرات أو الإضافات، وتعتبر الملحمة الغنائية روح ونبض التراث بما يرد فيها من سرد أحداث ووقائع تعكس قيم ومعطيات معرفية في حقبة تاريخية معينة.
الملحمة الغنائية الكردية استقت من طبيعة كوردستان الجميلة أبهى الصور وأروع الحكايا والقصص لتتماهى شخصية الإنسان الكردي وملامحه مع جبالها الشامخة الأبية وأيضاً مع ألوان الربيع في ربوعها الخلّابة البديعة فيتجلّى العشق الحقيقي الأصيل وملاحم البطولة في صورة كاشفة وحقيقية للحالة الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية في جانب من جوانب وجوده.
الملحمة الكردية تم توارثها شفاهاً وتم تناقلها على مر العصور من جيل إلى جيل، كل جيل يتحدث بلسانه وينقل أحاسيسه وافكاره وتقاليده، وفي ذات الوقت كل جيل متمسّك بهذا الإرث الجميل ويعي تماماً المسؤولية الملقاة على كاهله في ظل عدم توفر المناخ الملائم للتدوين ولعلّ طبيعة كوردستان الجبلية والظلم والاضطهاد وسياسة الإلغاء والإقصاء الذي لاقاه الشعب الكردي دفعه إلى الانغلاق على ذاته والتشبث بتراثه الفني عبر غناء ملاحم كانت تُؤدّى في بيتٍ من البيوت الريفية حيث كانت تُعقد الجلسات بحضور الوجهاء وكبار الرجال ليبدأ المغنّي بغناء الملحمة نصفها محادثة ونصفها غناء مع الارتجال أحياناً ويصل به الأمر إلى التماهي مع الأغنية والغرق في الحكاية إلى جانب حركات الجسد من إغماضة العينين إلى المسبحة في اليد ليردد الحاضرين مع كل فاصل “عبارة تاو تاو ” ، كل هذه التفاصيل الدقيقة تشكل بمجموعها حالة طقسية معيّنة تتسم بها هذه الجلسات المسائية الطويلة والتي كانت شخصية المغني هي المحورية.
تقسم الملحمة الكردية إلى ملاحم بطولية ” اللاوكس” التي تمثل معاني القوة والشجاعة وسمات الجسارة والنخوة التي يتمتع بها بطل الملحمة والتي تنتهي غالباً نهايات مأساوية كملحمة “قلعة دمدم”، وملاحم العشق والفراق ” الهيراتس” والتي تتحدث عن العشق والحب المستحيل في ظل ظروف اجتماعية معينة والفراق في نهاية الملحمة والتي غالباً تنتهي بالموت كملحمة “ممي الان”، بالإضافة إلى قسم آخر يصنّف بالكوميدي مع نهايات سعيدة كما في حكاية “رشيتو وغزالي” لتصبح الملحمة الكردية وسيلة التواصل عبر الزمان والمكان.
تتسم الملحمة الغنائية الكردية بالجرأة في مخاطبة تفاصيل جسد الأنثى “الغزل الفاحش” أحياناً حتى من الأنثى نفسها وهي تغني وتصف جسدها عندما تكون الملحمة على لسان المرأة كما في ملحمة درويشي عبدي على لسان عدول ولكن دون الوقوع في فخ الابتذال فثمة إيروتيكية موظفة تماماً في خدمة النص المسرود.
يتجلّى جمال الأدب الكردي وتطوره من حيث الغنى اللغوي وروعة الوصف والسرد في الملاحم الكردية التي كانت من شأنها أن تحفظ عدد كبير من المفردات اللغوية وتمنعها من التشتت والضياع والتي يشير إليها الروائي الكردي محمد أوزون بقوله: ” الأغاني هي المصدر الأغنى والأكثر دقّةً للمفردات الكردية الأصيلة”.
تعكس الملحمة واقع المرأة الكردية التي كانت تعيش انفتاحاً ملحوظاً وحرية مسبوقة مقارنةً بمثيلاتها في المجتمعات المجاورة لها كالعربية والتركية والفارسية سواءً من حيث الملاحم الأنثوية كملحمة فاطمة صالح أغا والتي أخذت نصيبها من السرد والسمع كالملاحم الذكورية تماما أو على صعيد غناء المرأة للأغاني الفلكلورية الكردية التي تتحدث عن الحب وهذه دلالة وإشارة إلى أهمية المرأة الكردية ودورها الثقافي والحضاري إلى جانب الرجل في مختلف جوانب الحياة.
من الملاحم الكردية الغنائية المعروفة: ممي آلان ، جَبلي ، درويشي عبدي ، عيشا إيبي ‘ سيامند وخجي ، غزالا رشيد بكي ،حمدين وشمدين…… الخ . ومن ابرز المغنين الذين كان لهم دور والفضل الأكبر في الحفاظ عليها : عفدالي زينكي ، علي خان ، آبي قادو ، حسن زيرك ، مريم خان ، محمد عارف ، تحسين طه، بافي صلاح وغيرهم الكثير ممن ساهموا في نثر عبق الماضي ابداعاً وجمالاً وهوية ومعنى انساني يترجم برقي حقيقة شعب يحب الحياة ويعشق الفرح رغم كل المحن التي مر بها.
المصادر:
دراسات سسيولوجية للشخصية الكوردية “د. أحمد خليل”
كتاب أدب الفلكلور الكوردي ” حيدر عمر”
Evlin Ibesh