منْ خاصرةِ الذاكرة

21صلاح الدين عيسى – موسوعة جياي كورمنج
إيه يا صديقي..
في واحد من تلك البيوت المتسلقة كدوال من عنب ، سفوح جبل قاسيون …. في تلك الحارة الدمشقية، كنتَ ورفاق أكلَ الذباب عيونكم ، تحتسون الهواء وتعتصرون رحيق البؤس والحرمان ، كنتم ـ ولما تطأ أقدامكم الحول السابع ـ تنشدون وطناً ممثلاً في لعبة جديدة وسروال جديد ، لم يكن على وجه البسيطة من مخلوق بشري أشد شقاء منكم .في العيد ، كنتم تدبون أرض الحارة دبَّاً رقيقاً، كتلاً من مشاعر البهجة والفرح ، أصواتكم كانت مملوءة بالبشر والحبور ووجوهكم قد صبغت بدمامة الفقر ، وحينما يدلهم الليل ، كنتم تتساقطون من السغوب واللغوب على فرش ، أتقنت أمهاتكم صناعتها من أكياس دقيق محشوة بأقمشة وأصواف رديئة .
إيه رفيقَ الدرب …
لَتَذْكُرُ ـ بالطبع ـ أواخر الستينيات من القرن الماضي ، كيف كان أهل الحارة ، يسارعون لطلاء النوافذ بالأصبغة الزرقاء ، وتذكرُ كيف توقف المذياع الصغير ـ فجأة ـ عن ترفيهك ، مستبدلاً برامجه بأناشيد ، حفظتها عن ظهر قلب ” موطني..موطني .. بلادي…. بلادي .. لك حبي وفؤادي ” ؟ ، ومع أن هدير السابحات مع النجوم قد أرهبك ؛ فإن الأمر قد أثارك إلى حدِّ ما ، تخيلت نفسك طياراً تدخل الرعب في قلوب الآخرين ، تمنيت حينها، أن تضمك قائمة النازحين ، فتلتهم وبنهم ، معلبات وأجبان كالغيث كانت تنهال على أقبية التجأوا إليها من منظمات إنسانية لم تعرِفْ ماهيتها آنذاك .
إيه يا صاحبي
كذكاء شقت الدرب عبر الغيوم الداكنة ، لتقذفنا بحزم من الدفء ، كالمحراث ـ لتنفجر ينابيع العشق والهيام ـ يشق تلماً في الأرض الصلدة ، شددتَ الرحال إلى هناك ، علَّكَ تجد ما افتقدته هنا منذ بدء الخليقة ، هجرتَ وطناً وأماً تجرعت غصص الوحشة ومرارة اللوعة، لملمت أذيال الخيبة، قفلت إلى مربع الطفولة، خالي الوفاض، خلا من كرامة لم تزل تُظلكَ بفيئها، ومن جديد ، انتابتك هواجس تدفعك للرحيل ، فلا من خيارٍ أمامكَ أو منْ حيلة لديك سوى أن تبقى هنا أو أن تهاجر إلى هناك. 
وحدك ، تائه في عصر مصاب بأسوأ حالات التصدع والشلل ، مطالَبٌ ، أن تتألم بأسارير منفرجة ، أن تضحك ملء أشداقك ، أن تبحث عن سوسنة حب وأقحوانة أمل في صحراء قاحلة ، في شتاءات تعصف الرياح بالبسيطة ، مثلما تعصف الرهبة بالكاتب ، فتدفعه لانتقاء الكلمات التي تناسب الأحاسيس المرهفة والأذواق الرفيعة ، مطالب أنت أيها الإنسان …؟؟؟ .
021

أضف تعليق