* دولتان … إحداهما ضمن جغرافية الوطن ، وثانيهما في بلدان الشتات *

* دولتان … إحداهما ضمن جغرافية الوطن ، وثانيهما في بلدان الشتات *

Salah Issa

u1

 

أبحرنا كثيراً في تأملاتنا ودراساتنا وبحوثنا في بلاد المهجر وأحوال المهجريين مع تبيان للظروف التي اقتلعتهم من أرض الآباء ليلتصقوا ببلاد دخيلة على جغرافية الأمكنة والفكر والتكوين الاجتماعي ، قرأنا الكثير من أدبهم الذي ينضح شوقاً وحباً لمواطن العشق في بلاد الشمس ، وها هو الزمن يدور فينتج جيل مهجري جديد ، فإن كان من هجر الأوطان في العشرينيات من القرن الفائت جلهم من فئة الشباب ، فالأمر قد اختلف في يومنا هذا فالمهاجرون طوعاً أو الـمُـهَجَّـرون تعسفاً ، هم أكثر تنوعاً ، عوائل بكامل أطقمها ، من الجد إلى الحفيد هارب ينشد بقعة أمن ، ورب من تشابه في دوافع الهجرة في كلا الحالتين فبينما كان الفقر والموت جوعاً وكمداً من أسباب هجرة القرن الفائت ، فإن الهجرة في عهدنا هذا ، إنما هرب من موت بقذيفة أو رصاصة أو اعتقال لتنافر فكري أو هرب من دفع المواطن لإزهاق روح أخيه ، أو مرض بلا قدرة على مزاولة العلاج أو جوع وإنهاك وضيم وذل ، أو انفلات أمني وسيطرة قوى متعفنة الفكر على مقدرات الأمور في مكان إقامة المواطن ، أو قد تكمن الأسباب في غضب إلهي أنزل على أرض لم يقدر أصحابها نعم الخالق حق قدرها أو هي الأسباب كلها مجتمعة أو منفردة ، فواحد منها يوخز المرء ويدفعه حثيثاً شد الرحال وعبور حدود الوطن إلى مجهول لا يعلمه إلا رب الخليقة ، وهنا لا بد من التنويه إلى أن شدة الرغبة في الرحيل عن الوطن لا ينفي البتة حب المهاجر لبلده وأرضه التي نشأ عليها فأجمل ذكريات يستمدها من طفولته وشبابه ، أين أمضاهما ومع من وفي أي الأمكنة ، إن النفس لتواقة أبداً إلى تلال ووهاد وشطآن وبساتين وصحار عاش المرء في أحضانها أو بالقرب منها أجمل أيامه.

جمهوريتان أخريان ــ إذاً ــ ستتشكلان ، إحداهما ضمن إطار سورية جديدة تعتمد القانون أساساً للعيش الآدمي والبناء الجغرافي ، والثانية تكوينها يتم في الأصقاع وشتات الأرض ، كلا الدولتين عمادهما سوريون يتوسمون سكينة النفس وطمأنينة القلب وعيشاً كريماً ، ولأن أمد الأزمة قد طال ، فإن جيلاً من الأبناء يكبر في خضم هذا الانحطاط الفكري والمعيشي الذي يشهد البلد ، حيث الكل إما يجاهد ضد الكفار أو ينظف البلد من الإرهاب ، وعبر رحلات التيه في غياهب المجهول يمضي إليه معظم من غادر الوطن .

u4

أبناؤنا في الداخل يكبرون بلا تعليم وأترابهم ممن يرافقون ذويهم خارج الوطن أيضاً لا من مدارس تثقفهم ، إذاً فنحن أمام جيل أمي يهدد مستقبل سورية الغد . ما من شك في أن سواد الذين تاهوا في الأرض واستكانت ــ بعد جهد ــ سفينتهم في أي بلد أوربي أو آسيوي، لن يعودوا إلى سورية وإن أطفئت لظى النيران فيها ، سيبقى الوطن بالنسبة إليهم مجرد حلم جميل يسترجعونه أسوة بكل ذكرى حلوة عايشوها في حيواتهم ، ولربما كان فأل سعد تراخي بعض الدول الأوربية مع السوريين واحتضان الكثير منها لهم ، فهم ومنذ عقود يحلمون بالانخراط في الحياة الأوربية لينعموا بالعيش الكريم إذ ضحى كثير من الملأ بما يملك من أجل تحقيق ذاك الحلم ، وقد يكون طول أمد القهر والظلم بكل أشكاله ، دافعاً لهم في البحث عن موطن بديل يثبتون فيه إنسانيتهم ، فقد انقطعت عند أكثرهم حبائل الأمل واستوطن الهجران أفئدتهم .

جيل من الأميين سيرفد سورية الغد فإن كان من المحال دوام الحال ، فإن الوطن وقد تشعب الخراب فيه فشمل أنفساً قد أنهكها صراع القوى على مراكز السلطة ، دمار البنية التحتية أهون ألف مرة من وهن الروح وتيه الفكر وسحق الأنفس . جيلان يترعرعان أحدهما في بلد المنشأ وآخر في بلدان الشتات ، الأول تستنزف الحرب الدائرة قواه العقلية والبدنية والثاني يعيش في خيم يسهل على الريح اقتلاعها كلما يحلوا للطبيعة أن تثور وتهيج وتنفس من سمومها ، وجيل رديف ، يسكن نقاط العبور يساوم ذووه المهربين كي ينتشلوهم من براثن الضياع .

لأكثر ما ينشغل السوريون به اليوم ، خلاص من واقع مزر وتطلع إلى من يمنحهم تأشيرات الدخول وبحث عن مصدر لتأمين المال حيث المهربون قد انتعشت تجارتهم في مصائب تسور الآملين بالرحيل عن الديار تاركين خلفهم حلو الذكريات ومرها ، متخلين عن عصارة أتعابهم وشقائهم مفضلين النجاة بالروح على خسارة الأملاك والمتاع .

u2

أبناء جلدتي اليوم مثل حجر الرحى يستطلعون الأخبار ….. يُعمِلون الاتصالات ،علَّ أحداً ممن تسنى له الوصول إلى أوربة ــ وهي المكان المفضل لديهم ــ أن يمد لهم جسراً يوصلهم إلى بر الأمان ، هم قد طووا صفحة تعليم الأبناء عندما توجسوا خطراً يحدق بهم في موطن الأجداد ، معظم السوريين راحل أو هو في طور الرحيل ولم يبق في الديار إلا من لا حول له من الأبرياء ، لم يبق إلا لصوص كالسرطان استشروا في الحياة المدنية ، عفواً، فقد بقي ثلة من أشباه البشرتقتات على جثث الموتى ، تزيد في إشعال النار كلما خمدت .

عذراً سوريتي الحبيبة هجرناك ودمع ينهمر على الوجنات ، أعذرينا أيتها الأرض الطيبة ، فالروح غالية والبحث عن السكينة تنشدها البهائم فكيف الحال بنا كآدميين منحنا الخالق من المشاعر والأحاسيس ما هب ودب .

نعم يا حبيبتي ، سنصم الآذان عن دعوات بعض القوى في دعوتنا إلى العودة ، فقد علمنا الزمن أن لدغة القريب وغدره أكثر إيلاماً ونحن ــ البتة ــ لن نلقي بالنفس إلى التهلكة ، فقد أترعنا كؤوس وطنية مزيفة ، مللنا العيش في ذل وقهر ومن حقنا أن نصبو للأمان ومشرع لنا الحفاظ على كياننا الآدمي ، فإن كان البعض يرى في هجرتنا عن الوطن نقيصة فكيف بالنبي صلوات الله عليه وقد هاجر من مكة إلى المدينة ؟؟!!.

كتبه لــ جياي كورمنج : صلاح الدين عيسى – عفرين

أضف تعليق