ملحمة ( ممو زين ) للشاعر أحمد خاني

ahmede-xani

صاغ أحداث هذه القصة شعرا , شاعر كردي كبير هو أحمد خاني , وهو واحد من علماء الأكراد الذين برعوا في علوم الفقه والفلسفة والتصوف والأدب . وكان من آثاره ديوان شعر باللغة الكردية دون فيه أحداث هذه القصة .
في مدينة بيازيد ,التي أخذت مكانها على صدر منطقة هكاري بكردستان تركيا . المضطجعة في أحضان الجبال الشاهقة , والمتزينة بأبهى حلة من السندس والياسمين , وبأشجار الصنوبر والسنديان , أضافت الحياة الى قائمة المشردين طفلا آخر , مشردا جديدا زاد في صفوف الفقراء الجائعين , هو أحمد خاني . نعم .. ولد أحمد جائعا , عاريا كغيره من أبناء الفقراء , حتى ان أحدا لم يبالي به فيدون يوم مولده , مما أدى الى اختلاف كبير من قبل من جاء بعده في تحديد ذلك اليوم الذي شهدت شمسه ولادة طفل غير عادي , سوف يغدو شاعرا كبيرا , وعبقريا فذا وصوتا من أصوات الحق ينادي بحرية شعبه . ولكن ما اتفق عليه المؤرخون هو 1650 م .
كغيره من أبناء عصره , تلقى خاني علومه الإبتدائية في الكتاتيب والجوامع , على أيدي شيوخ زمانه , ثم في المدارس التي كانت متوفرة أنذآك في المدن الكبيرة, مثل تبريز وبدليس , حيث ظهرت فيه علائم النبوغ مبكرة , وهو لم يتجاوز الربيع الرابع عشر من عمره . وسعيا وراء المزيد من العلم , زار مدنا كثيرة , وتجول فيها , وأقام في مرابعها ردحا من الزمن , مثل الآستانة-استانبول- ودمشق . كما زار مصر أيضا , فاطلع على علوم عصره . وتلقفها فجمع بين الأدب ولا سيما الشعر , وبين الفقه والتصوف , فذاعت شهرته مقرونة بالثقافة الواسعة والمعرفة العميقة في الأمور الأدبية والفلسفية والدينية .
في هذه الفترة من التاريخ كانت كردستان ملعبا من ملاعب الصراع بين الدولة العثمانية , والدولة الصفوية , اللتين قسمتاها بينهما إثر معركة جالديران الشهيرة 1514 م , وراحت كل منهما تحاول أن تضم اليها الإمارات الكردية . فكانت الدماء الكردية تراق مدرارا على الرغم من انه لم يكن للأكراد في كل ذلك أي شأن وطني أو إنساني , بل كانت الخسارة تحصدهم من الطرفين في كلتا الحالتين . وكان خاني يتأمل هذا الوضع المتردي ويقلبه على كل اوجهه , عسى أن يجد فيه بعضا مما يستحق أن تراق , من أجل الوصول إليه , هذه الدماء , ولكن أنى له ذلك !! ليس في كل ذلك شيئ مما يخص الأكراد في أمور حياتهم , بل عليهم الطامة , وضياع البلاد , ولعل ذلك الواقع المر , بل ولادته في خضمه , ثم تأمله فيه وتفاعله معه وإنفعاله به كان من أهم عوامل تكوينه الفكري .
كانت اللغات العربية والتركية والفارسية بالإضافة الى اللغة الكردية هي اللغات السائدة في المنطقة . فإنكب خاني عليها جميعا , وغرف من معينها إلى أن أتقنها كلها . ثم التفت للأطفال , فجسد حبه لهم من خلال تعليمهم وتلقينهم مبادئ اللغتين الكردية والعربية , فوضع قاموسه الكردي – العربي , الذي خصهم به , حتى انه أسماه ( الربيع الجديد للصغار ) وراح يفتح المدارس , ويتطوع للتعليم فيها بنفسه دون مقابل مجسدا بذلك حبه للعلم .
وعلى الرغم من تمكنه من اللغات العربية والفارسية والتركية , تراه قد آثر أن يكتب مؤلفاته باللغة الكردية , ليؤكد بذلك مساهمة الأكراد في بناء الحضارة الإنسانية . فخلف من بعده أروع ما كتب في الأدب الكردي . مبدعا الشعر القصصي في هذا الأدب وذلك من خلال ( ممي آلان ) و (ممو زين ) ديوانه الذائع الصيت الآن في الشرق والغرب , والمنتشر بين الآداب العالمية .
ويبدو أن المدينة التي انجبته قد استاثرت به طيلة حياته , ولم تستغن عنه إلا لبعض الوقت وآثرت أن يوارى في ثراها , فاختطفته يد المنون وتوفي – رحمه الله – في مدينة بيازيد مسقط راسه سنة 1708 م .

إن لبطلي هذه القصة المؤثرة قبرين معرفين في جزيرة ابن عمر . وقد أقيم عليهما , فيما بعد , مدرسة كبيرة لطلاب العلوم الشرعية . والقبران جاثمان هناك لكل من يريد رؤية الحب الذي نبت في الأرض , وأينع في السماء .

 4652rx8

في محراب الإلهام


تعال ايها الساقي فاملأ هذا الجام خمرا … املأه من تلك الخمرة الوردية التي اعتصرت من جنى الروح , واستخلصت من ذوب سر القلوب .ثم اسقنيها من شفاه كؤوسك الدرية المجوهرة أقداحا إثر أقداح , اسقنيها نشوة تهيج مني فؤادي الغافي وتسكر عقلي الحيران .(1) 
وأنت أيها الشادي …تعال فاجلس الى جانبي لتتم سكرة الروح بشجي من غنائك , أسمعني أنغام الناي والكمان , أطربني بوقع الدفوف والألحان . 
أبهجوا عيني بمرآى الورود الفاتنة والأغصان المتمايلة , دعوا كل هذا ياخذ بمشاعري وإحساسي ليسكرني عن هذا الوجود الذي حولي , فعسى أن تضمحل مني كثافة هذه المادة والجسم فأظل قلبا وروحا , وأبقى معنى وإحساسا . وعسى أن يدكرني إذ يدركني إذ ذاك فيض من نور القدس , فيعكس إلى نفسي قبسا من إشراقه ويقذف فيها نورا من ضيائه , فيصفو مني القلب وتجلو أمام عيني أسرار هذه الحياة . لكي أغدو مع كل صباح فأترجم للناس حديث النسيم مع الأغصان , وأشرح لهم مغازلة الطيور للأزهار , ولكي أسير مع الأصائل فأقرأ لهم آيات الشمس المنبسطة فوق صفحة الخمائل والغدران , وأردد مع العنادل والبلابل أنغام الحب والجمال , ولكي أسكرهم من جمال هذا الكون بخمر من مداد قلمي , وأطربهم من ألحانه ببيان قلبي ولسني . 
هات أيها الساقي… هاتها كؤوسا مترعة من هذه الراح , لكي أنفض بها من قلبي أحزانه , ولكي أغدو مخمورا بحرارة لذعها ويسكر مني العقل بنشوتها . 
هاتها ليهيج مني الفكر فأنطق بأسرار القلوب , ولتستعلي مني الروح فأنثر من مكنون المعاني ودرها , وأكشف عن خلجات النفوس ووجدها , وأبين عن آلام الأفئدة وحبها . 
سأرسلها أنغاما تطرب القلوب من غير أوتار , سأبعثها شذى عطرا يبهج النفوس من دون أزهار , سأبعث اليوم تاريخا من الحسرات والآلام أغمض عينيه من دهر ونام , سأشعل من جديد زفرات لمعت في صدور .. ونارا الهبت في قلوب , ثم خمدت بعد أن أحالتها إلى رماد ! سأعيد الحياة بروح من بياني إلى ( ممو ) و ( زين ) ضحيتي نار الحب والغرام . لأدواي قلبيهما بفيض من شعري وإحساسي , إذ لم يرحمهما أحد بدواء الوصل والإسعاد , سأزيح للناس الحجاب عن قلب ذلك المسكين الذي كواه الحب المستعر وسحقه الكيد والحقد , وعن قلب تلك البريئة الطاهرة طهارة المزن بين السحب . تلك التي أذابها الشقاء واعتصرتها يد الظلم كما تعتصر الوردة الناعمة في كف غليظة قاسية . سألبس كلا من هذين الحبيبين ثوبا مطرزا من بياني , ثم أرفعهما إلى أوج التاريخ فليخلدا وليخلد صدى زفراتهما مدى الدهر والحياة , ثم ليمر من أمامهما كل مستعرض وناظر . فليبك أناس حرمانهما واحتراقهما , وليفتتن آخرون بلطف (زين ) وجمالها . 
وعسى أن يسأل لي الرحمة أيضا كل من يسترحم لهما , وعسى أن يدركني أنا أيضا أثر من عطفهم وقبس من دعائهم , وعسى أن يقول أناس : رحمه الله فقد وشى حياتهما بوشي جميل , وغرس قصتهما في بستان الخلود . 
وعسى أن يتلطف الناقدون لسفري هذا في نقدهم , فهو وإن لم يبلغ درجة الكمال ولكنه طفلي الغالي … عزيز الى نفسي , مدلل عند قلبي , جميل في عيني . وهو بستان وإن كان قد يرى بين ثماره ما هو فج غير يانع , غير يانع , غير أنها حديقة فؤادي وأزهار فكري ولبي . وحسبهما من جهدي ما قدمت , وحسبي منها ما أثمرت 

(1) الشاعر كما قلت في المقدمة صوفي النزعة وعلى جانب كبير من الدين والعلم … فحديثه عن الخمر والأقداح ونحو ذلك مما يعبر به كثير من الشعراء والمتصوفة على سبيل المشاكلة والمجاز 

الجزيرة الخضراء

حدث ذلك في حوالي عام 1393 م في جزيرة ( بوطان) المعروفة اليوم باسم – جزيرة ابن عمر – تلك التي تقع على شاطئ دجلة , وتمتد في اتساع شاسع بين الهضاب والتلال الخضر الواقعة في شمال العراق . 
واسم هذه الجزيرة يتألق في مقدمة ربوع كردستان التي يمتاز معظمها بقسط وافر من جمال الطبيعة وبهائها , اذ نتشعب بين رياض طبيعية بديعة , وينعكس اليها من شائر أطرافها بريق دجلة الذي يحف بمعظم جهاتها , كما يزيد في روعة جمالها جبالها الشاهقة في جوف السماء , التي تفاخر في علوها العجيب وفتنتها الخضراء معظم جبال العالم , وتنتشر من حولها سر الخلود وآيات الجلال . 
وانبعثت حوادث هذه القصة من قصر أمير الجزيرة ( الأمير زين الدين ) , حيث كانت بلا الأكراد آنذاك وما بعد ذلك العصر إلى أواسط عهد العثمانيين منقسمة إلى عدة إمارات , يتولى إدارة كل منها أمير يتمتع بالجدارة والقوة . 
ولم يكن الأمير زين الدين ذا كفاءة عاليه فحسب … بل كان يتمتع إلى ذلك بغنى واسع وبمظهر كبير من القوة والسلطان . والغريب أن ذلك لم يكن ليمنعه من امتلاكه العجيب لقلوب أمته , واكتسابه محبة سائر طبقات شعبه , مما أذاع اسمه مقرونا بالهيبة والإجلال لا في بوطان وحدها , بل في سائر أنحاء كردستان وإماراتها . 
ولم يكن قصره الذي كان يرى من بعيد كأنه برج هائل , كقصور بقية الأمراء من أمثاله , وإنما كان آية من آيات الفن والإبداع .. كان منتهيا إلى أقصى حد في البذخ المبذول لتصميمه وتشييده وإقامة أبهته ..! 
ولم تكن في داخله أبهاء وقيعان فاخرة فحسب , وإنما كان يزدان أيضا بمتاحف تضم مختلف العجائب والنوادر , وأنواع المجوهرات الغريبة والفاخرة ..! 
أما رحابه وشرفاته فكانت تميس بعشرات الغلمان .. وبمثل ذلك من أجمل الجواري والفتيات … يجبن في أنحائه , ويضفن على رحابه جوا سحريا يشع بالفتنة والجمال . 
غير أن الآية الكبرى للجمال في ذلك القصر لم تكن منبعثة عن أي واحدة من تلك الجواري والحسان , وإنما كانت سرا لدرتين شقيقتين غير كل أولئك . خلقهما الله في ذلك القصر ، بل في تلك الجزيرة كلها مثلا أعلى للجمال ، ونموذجا كاملا للفتنة والسحر الإلهي في اسمى مظاهرهما ، وكأنما أبدعتهما يد الخلاق هذا الإبداع العجيب في ذلك القصر الرائع ليؤمن كل فنان بارع ، ومبدع وصانع ، بأن الجمال إنما هو هذا ..! لا رصف الأحجار وفن النقش وصنعة التلميع ، هذه فتنة تبهر القلوب وتسكر الألباب ، وذلك رونق يبرق في الأعين ويزيغ بالأبصار ، وشتان ما بينهما من فرق . 
ولم تكن هاتان الشقيقتان سوى أختين للأمير زين الدين . كان اسم كبراهما ( ستي ) وكانت بين البياض الناصع والسمرة الفاتنة / قد أفرغ الجمال في كل جارحة من جسمها على حدة ، ثم أفرغ بمقدار ذلك كله على مجموع جسمها وشكلها ، فعادت شيئا أبرع من السحر وأبلغ من الفتنة . 
وأما الصغرى واسمها ( زين ) فقد كانت وحدها البرهان الدال على أن اليد الإلهية قادرة على خلق الجمال والفتنة في مظهر أبدع من أختها وأسمى . 
كانت هيفاء بضة ذات قوام رائع ، قد ازدهر في بياضها الناصع حمرة اللهب ، ذات عينين دعجاوين أودعهما الله كل آيات الفتك واللطف التي تتسامى على التعبير . 
ولم تكن شقراء ، غير أن شعرها الاسود الفاحم – وقد أحاط كسحر الليل بوجهها الذي قسمت ملامحه أبدع تقسيم وامتزج فيه عند الشفاه ولهب الوجنتين ببياضه الناصع – كان يثخن الألباب فتكا ويغمر العقل سكرا . 
وكانت لها الى ذلك كله رقة عجيبة في روحها ، وخفة متناهية في دمها . فكانت في مجموعها خلاصة لأروع أمثلة المال والخفة واللطف . 
وعلى الرغم من أن هاتين الغادتين كانتا لؤلوتين محجوزتين في صدفة ذلك القصر عن معظم الأبصار ، فقد كان اسماهما ذائعين منتشرين في سائر أطراف الجزيرة بل في كثير من بلاد كردستان ، يتخذون من شهرتهما المقياس الأعلى والمثل الكامل للجمال . 
وقد كان من الغريب في الواقع أن تخلق تلك الفاتنتان في قصر أمير بوطان لتصبحا أجمل زهرتين تحبسان في رحابه عن الأنظار ، لولا أن الشعب الكردي عامة وأولي الزعامة فيهم خاصة غرست في طبيعتهم غيرة ملتهبة لا تكاد تفارق جوانحهم ، مما يجعلهم يتحرجون من اختلاط الجنسين ألا بمقدار … هذا ألى أن شقيقهما الأمير كان قد أوتي مزيدا من هذه الغيرة بين جانبيه ، وزادها ما كانت تتمتع به اختاه من ذلك الجمال النادر الذي أبى إلا أن يذيع اسميهما في الجزيرة كلها وفي معظم البلاد الاخرى .. ولذلك فقد كان من العسير جدا أن يكون لعشاق ذلك القصر الكثيرين نصيب منه غير السماع … وتسقط الأخبار.

عيد الربيع ( النوروز )

كان الوقت أصيلا ، والناس يودعون يوم 20 مارس ليستقبلو من ورائه ربيع سنة جديدة ، وكانت أعمالهم وحركات طرقهم وأسواقهم قد اتخذت مظهرا لنشاط جلي غير معهود . فقد كان عليهم جميعا أن يتهيئوا ويستعدوا للخروج مع صباح اليوم الثاني إلى ظاهر المدينة . ويقضوا بياض نهارهم فوق المهاد الخضر الوارفة ، وعلى ضفاف دجلة وفي سفوح تلك الجبال . وذلك جريا وراء تلك العادة السارية في جميع أنحاء كردستان من الإحتفال في مثل ذلك اليوم بشروق الربيع ويومه الجديد . فالطبيعة لها عليهم حق ومنة كبرى . ومن واجبها عليهم أن يحتفلوا بها في مولدها الجديد ، فينطلقوا جميعا من كبير وصغير ورجل وأنثى تاركين ورائهم كل آثار التصنع والتكلف التي تعج بها دنيا المدن والعمران ، الى حيث تلوح صفحات الإبداع الإلهي الساحر . فيخشعون لها وحدها ، ويظلون معها في نشوة ومرح إلى أن تتوارى عنهم شمس ذلك اليوم … 
وكان مظهر هذا النشاط الملموح عاما في كل أرجاء الجزيرة وأطرافها ، لا سيما حول قصر الأمير . فقد كان على رجال القصر وحاشيته أن يفرغوا مساء ذلك اليوم من تنظيم منهاج لموكب الأمير الذي سيشرف بنفسه على مهرجان الربيع . وقد ينتهز الفرصة فيقوم أيضا برحلة إلى الصيد مع جمع من رجاله وحاشيته . أما داخل القصر ، فقد كان أهدأ ناحية فيه القسم الأعلى منه . كان خاليا تماما ليس فيه أحد إلا الأميرتان زين و ستي ، كانت منحازتين إلى إحدى الشرفات ومتخذتين مجلسهما على بعض متكآت تلك الشرفة ترقبان ساعة الغروب ، وترنوان إلى الأصيل والآكام ، وعلى صفحة دجلة الذي يتشعب ملتويا حول معظم أطراف الجزيرة . 
قالت ستي : ’’ يبدو أنني لن أعثر على الرجل الذي أعجب به إلا أذا بلغ أثر جماله لدي مبلغ فتنة هذه الطبيعة الحالمة وأثرها في نفسي ..‘‘ 
فأجابتها زين : ’’ ولكن ويحك إن هذا يعني أن يكون ذلك الرجل بالغ الذروة في الجمال . وأين تجدين من قد استقر فوق هذه الذروة ..؟ أم لعلك تحسبين أن الرجال كلهم يعيشون في قصر مثل قصرك هذا ، وينشؤون في مثل ما أنت فيه من نعمة ؟ ‘‘ 
قالت : ’’ ولكن لا بد عند البحث أن يوجد مثل هذا الرجل الذي أتخيله وأعنيه .‘‘ 
فأجابتها زين مستضحكة : ’’ ولكن كيف تستطيعين أن تبحثي عن رجل خيالك هذا ..؟ أم أنك قد أصبحت رجلاًً كالرجال .. تداخلينهم وتستعرضينهم في أنديتهم ومجامعهم حتى إذا ما عثرتي عليه أتيت به وركنت اليه ..؟!‘‘ 
فأطرقت ستي متكئة ، وهي تداعب خصلات من شعرها ، ثم هزت رأسها وهي تقول : ’’ أجل ، فالمشكلة إنما هي هذه فقط …‘‘ 
وعادت إلى السكوت . 
وبعد قليل انفجرت زين بضحكة عاليه .. ثم أسرت إلى أختها قائلة : 
’’ لقد وجدت لهذه المشكلة حلا فاسمعي …‘‘ 
واعتدلت في جلستها ، ثم دنت إلى أختها ، كأنما تخشى أن يسمعها أحد . وأخذت تقول : 
’’ تعلمين أن غدا هو عيد الربيع ، وأن أهل الجزيرة كلها سيخرجون في هذه المناسبة إلى الحقول والرياض . ولا شك أن ذلك أجمل فرصة لما تفكرين فيه ..‘‘ 
فقالت : ’’ ويحك وأين الحل في هذا ..؟؟ فمتى كانت النساء يمتزجن بالرجال في مثل هذا اليوم الإمتزاج الذي تظنين ..! وهل تجهلين أنه ستكون لنا أمكنة خاصة من دون الرجال ، أم ..‘‘ 
فقاطعتها زين قائلة : ’’ ولكنني لم أقل لك الحل بعد . أريد أن أقول إن أحدا من الناس لن يبقى غدا في هذه المدينة ، وسيتلاقى كلهم في هذا الفضاء . فما علينا إلا أن نتأخر عن موكب القصر غدا متظاهرتين بفتور وانحطاط جسمي يمنعنا من الخروج ، حتى إذا خلا القصر خرجنا متنكرتين في لباس الرجال وهيآتهم ، ثم نندس في صفوفهم ولا شك أنهم سيحسبوننا من شباب القصر وغلمانه . وأكبر الظن أننا سننجح في الفكرة ، وسيتاح لكل منا أن تجد من بين مختلف شباب هذه الجزيرة الواسعة الأطراف من يروقها ويعجبها .. ‘‘
ولم تكد زين تعرض الفكرة على أختها حتى أعجبت بها ، وسرعان ما اتفقتا على تطبيقها في الصباح الباكر . 
ثم أخذتا تتحدثان عن وسائل تنفيذ الفكرة وعما يجب اتخاذه حيال ذلك من تدابير .. غير أنهما اضطرتا أخيرا إلى قطع الحديث عندما تنبهتا إلى أن الشمس قد توارت في غيبها منذ فينة ، وإلى أن الظلام الذي امتد على سطح الجزيرة وتكاثف فوق بيوتها التي راحت تختفي عن الأعين مخلفة آثارها من الأضواء المتفرقة التي تشع هنا وهناك . وخشيتا أن يحوم حول مجلسهما ذاك من يسمع شيئا من حديثهما الذي ينبغي أن يكون سرا لا يطلع عليه أحد ، فطوتا الحديث ، وغادرتا الشرفة ، وأخذتا تتدرجان في الممشى الفسيح الذي يؤدي إلى البهو . 
وهناك رأتا بعض غلمان القصر فسألتاه : ’’ أخرج الأمير من الديوان أم لا ..؟؟‘‘ فأجابهما بأنه لا يزال في الديوان مع بعض رجاله ، يتحدثون عما يختص برحلة الصيد التي عقد عليها العزم مع بعض أصفيائة في صباح الغد . ثم حياهما بانحناءة وانصرف . 
فسرهما هذا النبأ … إذ كان ذلك من جملة الأسباب التي ستيسر لهما النجاح في تنفيذ الفكرة التي اتفقتا عليها .. تلك الفكرة التي لم تكن سوى أثر لما تتمتعان به من الجمال النادر ، إذ كانتا تتصوران أنه لا يكافئهما إلا من كان في مثل ذلك الجمال أو نحوه . ولذلك فقد كانتا تتمنعان على كثير من الراغبين فيهما والطامعين بهما ، انتظارا للفتى المناسب …. 
ثم إنهما تبادلتا التحية .. وإنصرفت كل منهما إلى مقصورتها الخاصة ، على أن موعدهما الصباح … 
وفي صباح اليوم التالي أشرقت شمس بوطان على أسواق خالية ، وميادين خاوية . . فقد خرج جميع من فيها يستجلون العيد الذي أقبل يحييهم من فوق مسارح الطبيعة الغناء التي انتشت وازدهرت من جديد بعد أن ظلت منكمشة متوارية شهورا عديدة تحت أعاصير الشتاء وركام الثلوج . 
كان الناس كلهم ينتشرون بين أجواء خمرية ساحرة ، تتهادى على ضفاف النهر الفضي .. وفوق الروابي الخضر ..المطرزة بأبدع نقوش الزهور ، وفوق سفوح ’’ جودي ‘‘ المفروشة بأبهى ديباجة من السندس المتألق . 
وكنت تنظر إليهم فتمتد بهم العين في الجهات الأربع ، ثم لا تكاد تبلغ النهاية . تراهم خليطا متضاربا من شتى الطبقات والأشكال والاتجاهات ، قد امتزج فيهم الغني والفقير ، وتحاذى الصغير والكبر وتلاقى المثقف والجاهل . فيهم العاشق الذي جاء ليغمر جراح قلبه بكؤوس من خمر النسيان .. وفيهم الشاعر الذي أطرق خاشعا يرنو إلى الفتنة الحالمة ، يستوحي منها آيات الإلهام ، وفيهم الفيلسوف الذي أسرته الحيرة وملكه الذهول ، فهوى ساجدا لخالق هذا السحر والجمال …!! 
ولا بدع .. فالطبيعة أمهم جميعا من دون تفريق ، تحنو عليهم حنوا واحدا وتبتسم لهم ابتسامة واحدة ، وتسقيهم حمياها من كأس لا تختلف . فلهم جميعا أن يثملوا اليوم برحيقها ويرقصوا في أحضانها ، وأن يجد كل في سرها دواء قلبه ، وعلى كل مظاهر الجمال الزائف وأشكاله المصطنعة أن تنتبذ عنهم إلى مكان قصي .. فالخمر هنا ليس إلا ما اعتصر من شذاها ، والجمال ليس إلا ما انعكس من بهائها … 
ولكن أمرا واحدا غير هذا استطاع أن يلفت عقول الناس في ذلك اليوم في حيرة بالغة ، فقد كان في ذلك الجمع شابان لو أن تلك الطبيعة الخلابة استجمعت كل فتنها وسحرها ثم أرادت أن تقذف بجميع ذلك إلى الدنيا في مظهر شابين فيهما كل تلك الفتنة وذلك السحر لما استطاعت أن تجود بأبدع منها وأجمل ..!! 
كانا يثيران عواصف الدهشة لدى كل من يلمحهما مما آتاهما الله من ذلك الجمال الغريب ..!! وكان لا يمر أحد من أولئك الحشد إلا وقفة الذهول فترة .. كأنما يتسائل : من عسى أن يكون هذان الشابان اللذان لا يبدو فيهما شيئ من كثافة الدنيا ..؟؟ ألعلهما ملكان نزلا من سمائهما للمشاركة في هذا العيد ؟ !! أم هما توأمان لهذه الطبيعة الخلابة .. جسدتهما في مظهر هذين الشابين هدية إلينا وشكرا لاحتفائنا بها ..؟!! 
ولقد كان لهم في الواقع أن يعجبوا كل ذلك .. فإن ذينك الشابين لم يكونا سوى الأميرتين ستي وزين ..! خرجتا تشتركان في ذلك الإحتفال بعد أن تنكرتا في لباس الرجال وأشكالهم ، ليسهل عليهما استعراض ذلك الجمع الحاشد الذي قد تجد فيه كل منهما فتى أحلامها ، والشاب الملائم لجمالها . 
بيد أن الأميرتين اللتين سحرتا الألباب لم تستطيعان العثور في ذلك اليوم على أي شاب بين ذلك الجمع الغفير يسحر لبهما ويحوز إعجابهما ..!! إذ كانتا تنظران إلى معنى الجمال بمقياسهما الخاص ، وتقدرناه بالنظر للمعجزة التي اختصهما الخلاق بها ! وأنى للمعجزة الخارقة أن تظهر هنا وهناك ؟ وكيف يتأنى للمثل الأعلى أن يتخذ مظهره في أفراد عديدة .. كأي شيء آخر غير معجز أو غريب ..؟! 
وهكذا ظل الناس بياض نهارهم ذاك يلهون ويمرحون على شطآن الأنهار وبين الورود والأزهار ، وفوق الآكام والتلال وتحت ظلال الأشجار ، إلى أن هب النهار ليدبر ، وأخذت أشعة الشمس تتقلص نحو المغيب ، وظهرت ظلال الروابي والأشجار شاحبة متطاولة بين الحشائش والأزهار ، وأخذت الشمس ترنو إليهم من فوق منحدرها صفراء ذاوية ، تحييهم تحية الوداع وتوقظهم من غمزة الخيال الحالم إلى مواجهة الحقيقة .. الحقيقة التي تطبع كل شيء بطابع الزوال والفناء ، وتحرمه من عظمة الخلود والبقاء . 
ومع تلك التحية التي راحت الشمس تلوح إليهم بها قام الناس جميعا منصرفين إلى دورهم . 
وعند الرجوع حيث كانت الطرق والشعاب تهدر بتلك الجموع من الرجال والنساء والولدان ، عائدين إلى بيوتهم ، وقد انحازت الأميرتان في سيرهما إلى طريق بعيدة قليلا عن زحام أولئك النساء اللواتي امتزجن مع الرجال في ذلك الطريق ، حدث امر غريب …!!! 
فقد انتبهت الأميرتان إلى أن فتاتين من بين ذلك الحشد تقبلان نحوهما في خطى متعثرة ووجهين مشدوهين ..! فأحرجتا .. ولك تشكا في أنهما فتاتين قد عرفتنا وألمتا بأمرهما . 
ولكن الفتاتين ما إن دنتا منهما حتى أصابهما ما يشبه الدوار ، وظلتا تتقدمان إليهما ، ثم وقفتا أمامهما ، وشخصت عيناهما في شكليهما ، ثم أخذت تترنح من كل منهما القامة … ثم سقطت كل منهما على الأرض الواحدة تلو الأخرى ، في غيبوية كاملة عن الدنيا وما فيها ..! 
أما الأميرتان فقد انتابهما ذهول شديد لذلك وتعلقتا بمعرفة تينك الجاريتين ومن عسى تكونان .. ومن أي طبقة هما ..؟ ولكنهما خشيتا لأن تقفا قليلا إلى جانبهما للوقوف على سرهما ، فيلفت ذلك نظر الناس الذين يمرون على مقربة منهما ويجتمعوا عليهم .. فتظاهرتا بعدم الانتباه إلى شيء غير طبيعي وأخذتا تواصلان سيرهما غير مكترثتين .. حتى إذا ابتعد الناس عن مكان الجاريتين وأدركتا أن الجموع قد تجاوزتهما عادتا أدراجهما خلسة إلى مصرعهما وقد داخلتهما رحمة وشفقة شديدة عليهما . 
ووصلتا إلى مكانهما .. وهما لا تزالان في غشيتهما تلك ، فجلستا إلى جانبهما تسرحان النظر في ملامحهما ، وتمعنان في شكل كل منهما وهيئتهما التي قد تكشف لهما الستار عن شخصيتهما ولعلهما تذكران أتعرفانهما أم لا ؟ .. ولكنهما لم تعرفا عنهما شيئا ، ولم تستطع إحداهما أن تتذكر أنها كانت رأتهما أو رأت واحدة منهما في يوم ما في أي مكان .!
كانت على وجه كل منهما مسحة رائعة من الجمال مشوب بسيما الجلال ومعنى العزة . مما يدل على أنهما تتمتعان بمكانة ذات سمو ..! وكانت ثيابهما متشابهة في طرازها وشكلها ، مما يدل على أنهما شقيقتان أو قريبتان .. أما أناقة ذلك الهندام وبداعة وشيه وطرزه فقد كانت تدل دلالة واضحة على مبلغ النعمة التي تتقلبان فيها ..!! 
وأخذت الأميرتان ترنوان اليهما بعين من الأسى والإشفاق ، وهما مطروحتان فوق تلك الأرض ، وقد غمر كل منهما الإحساس في بحر لجي من الذهول المطبق . وليس من حركة فيهما إلا تنفس الصعداء الذي يمر في صدرهما جيئة وذهابا . وراح ذلك الإشفاق يستحيل تدريجا بقدرة خالق الأرواح إلى حب غريب غير مفهوم .!! 
وأخذت نظراتهما وهما جالستان إلى جانبهما في تلك البيداء تتسائل في عجب : أي روض ترى إخضر فيه هذان الغصنان ؟ وفي أي خميلة تفتحت هاتان الوردتان .!؟ أم أي الجداول والغدران أكسبتهما سحرها ؟!! 
ولم يطل جلوسهما .. فقد لمحتا على البعد فرسانا تجري بهم الخيول في بعض تلك الشعاب باتجاه المدينة . فأدركتا أنهم الأمير وصحبه عائدين من الصيد ، وتذكرتا أن من الأنسب عودتهما إلى القصر قبل وصول الأمير . فنهضتا تودعان الجاريتين اللتين لم تزالا في غيبة عن رشدهما ، بعد أن عمدت كل منهما إلى الخاتم النادر الثمين الذي يتلألأ في أصبعهما ، والذي نقشت عليه بوشي دقيق رائع من حجارة الماس والياقوت اسم صاحبته فألبسته إصبع كل من الجاريتين ، واستبدلتا به خاتمين بسيطين كانتا في يد كل منهما ، لينوب ذلك عنهما في التعبير عن تقديرهما والعطف عليهما ، ثم ليكون وسيلة لهما فيما بعد إلى معرفتهما والإهتداء إلى أصلهما . وهكذا مضت الأميرتان بعد أن استعاضتا عن الدر والألماس النادرين خرزا وزجاجا بسيطين 

* عيد الربيع الذي أشار اليه الخاني هنا هو عيد نوروز .. يحتفل به الأكراد والفرس في الحادي والعشرين من آذار من كل سنة … يحتفل به أبناء الشعب الكردي بالخروج إلى الطبيعة متزينين بالحلى الفلكلورية …يعقدون حلقات الرقص والدبكات .. ويشعلون النار التي ترمز إلى النار التي أشعلها ( كاوا الحداد ) قبل آلاف السنين معلنا نهاية الظلم والإستبداد .. رمزا للنصر والتحرر .

سر الجاريتين

لم تكن الجاريتان اللتان كان من أمرهما ما حدث من الصدمة والذهول امرأتان كما تبدوان ..! وإنما كانا شابين بارزين من رجال ديوان الأمير ! كان أحدهما ابن الوزير الأول اسمه ( تاج الدين ) ، وواحدا من أشقاء ثلاثة عرفوا من بين سائر الحاشية بالنجدة والشجاعة الخارقة ، واقترنت أسماؤهم في أنحاء الجزير كلها بالهيبة والإجلال ، وكان للأمير اعتماد بالغ عليهم في كثير من ظروفه الخاصة والمناسبات . وكان اسم أحد شقيقي هذا الشاب ( عارف ) والثاني ( جكو). 
وأما الآخر فكان أحد سكرتيرية الديوان يقال له ( ممو ) وكان الصفي الوحيد لتاج الدين من بين شقيقيه وسائر أصحابه ، قد جعل الله بينهما من المودة والإخاء ما يندر اتفاق مثله بين أي أخوين أو صديقين . ولعل الذي جمعهما على ذلك التحابب والإخاء ما عرفا به من تعلقهما الشديد للجمال . فقد كانا مولهين به ولها عجيبا في كل صوره ومظاهره ، وكان يبلغ بهما التأثر بحقيقته مبلغا فوق ما هو معتاد أو طبيعي ، كما كانا في شوق شديد إلى أن يلمحا ولو مرة في العمر هاتين الأميرتين اللتين ذاع جمالهما في معظم جهات كردستان وبقاعها . 
وقد كان هذا هو الذي دعاهما في ذلك اليوم إلى التنكر في لباس النساء وهيأتهن والظهور بمظهرهن ، فاستبدل كل منهما عن حلته بغلالة حريرية من أفخر أنواع الإستبرق ، وتمنطق في وسطه بمنطقة مزركشة من أفخر ما تحويه الغانيات الفاتنات . كما لف كل منهما على رأسه معجزا رائعا تتدلى من سائر حواشيه خيوطه الحريرية الناعمة ، وحبكه فوق جبينه حبكا فاتنا على نحو ما تفعله فتيات الأكراد ، وترك خصلا من شعره الطويل تبرز من فوق الصدغين ، كأنهما سالفان رائعان يظهران من تحت ذلك المعجز البديع . ثم انطلقا يستعرضان الجمال في كلا مظهريه ، مظهر الطبيعة الحالمة والمروج البديعة ، ومظهر الوجوه الفاتنة واللحاظ الساحرة ، وكان أكبره همهما هو استجلاء جمال تينك الأميرتين اللتين سحرتا الجزيرة باسميهما ، وما زالا منذ أمد بعيد يترقبان الفرص السانحة لرؤيتهما . 
وفي أثناء رجوعهما مع الناس كانا قد انتشيا بروح الجمال وثمل عقل كل منهما بخمره ، فكان لرؤيتهما في تلك الساعة فعل الطعنة القاضية التي صدعت قلبيهما . ولم يكن ذلك كله ليفقدهما الرشد والإدراك لولا أن حقيقة روحانية أجلَّ من ذلك ساورتهما وطغت على مشاعرهما . كانت تلك الحقيقة هي الحب .. الحب الروحاني الخالص الذي يتسامى على الإعتبارات الجسدية ، وتعالى فوق حقيقة الجنسية من ذكورة وأنوثة . فقد مس كل من كليهما سويداء قلبه ، وانطلق تياره الخفاق منبعثأ في كل مداخل الروح الأخرى التي كانت تعلقت بها منذ الأزل ، ثم ضلت عنه في منحدرهما إلى خضم هذا العالم المتلاطم ، حيث طفقت تبحث عنهما بين صور الطبيعة والأزهار . وتصغي إلى صوتها في غناء العنادل والأطيار ، وتفتش عن مظهرها في الوجوه والأشكال ، إلى أن التقت بها اليوم بعد الشوق المستعر والفراق الطويل . فلا غرابة أن تذهل الروح في تلك الساعة عن جسمها ، ولا عجب حينئذ للعين أن تشخص وللعقل أن يتبدد وللإحساس أن يغيض . ولا غرابة أن يتغلب الحب .. فيصرع ذينك الفارسين ويطرحهما كفراشة بين أذيال اللهب . 
وبعد هزيع طويل مضى من تلك الليلة ، استطاع الجسم أن يلفت إليه روحه ويستعيدها مرة أخرى ، كما استطاع العقل أن يستيقظ ويؤوب إلى رشده . 
واستيقظ ممو وتاج الدين من غيبوبتهما ليجد كل منهما نفسه منطرحا بين تلافيف ليل أسود مظلم قد توارت من سمائه النجوم ، في فلاة خاشعة لا تجوب على أرضها قدم ، ولا يرفرف في سمائها جناح . وقد أطبق عليهما جوٌّ من النسيان والذهول ، فهما لا يذكران شيئا مما حدث لهما ، ولا يعلمان ما الذي طرحهما في تلك الأرض وما السبب في بقائهما هناك . غاية ما استطاع كل منهما أن يشعر به في نفسه خفقان غريب في القلب ، وانهيار تام في الأعصاب وفتور عام في القوى ، وخبل شديد في الذاكرة ..!! 
وبعد قليل نهضا في جهد ملموح وإرهاق واضح ليأخذ سمت طريقهما إلى المدينة حيث استطاعا أن يصلا إلى داخل العمران بعد تحامل شديد وإعياء . وهناك حيا كل منهما الآخر وانصرف إلى بيته . 
ومضى يوم .. و يومان … وما يقارب الإسبوع ..وكل من ممو وتاج الدين يقاسي آلاما غامضة تشتد ولا تلين !! وتزداد ولا تقل ، ويعاني شعوراً غريباَ لا يدرى سببه ولا يدرك تفسيره . وأخذ إحساس كل منهما بمظاهر الأشياء وصور الناس يختلف عن الأول اختلافا باديا ! فقد أصبح كل منهما يشعر بالوحشة من كل شيء ، ويحس بالملل من سائر ما كان يألفه . وكأنما كانت روح كل منهما تبحث في أعماق نفسه عن شيء عزيز افتقده ، وعن حقيقة ساميه لاحت لها ثم ضلت عنها ، ولكن ما هو ذلك الشيء ؟ ومتى أحس به حتى يشعر بأنه افتقده ؟ كل ذلك كان سرا غامضا عنهما ، يحومان حوله ولا يستطيعان اختراقه . وكانت غرابة ذلك الشعور وغموض تلك الأحاسيس يجعلان كلاً منهما متحفظا عن الإفضاء بذلك إلى صاحبه ، ويشعره بحرج من بيانه وإيضاحه له ، إذ قد يذهب حديثه الغامض مذاهب كثيرة بصاحبه لتفسيره وكشفه … 
غير أن تلك الآلام والمشاعر المرهقة .. ما لبثت أن اتخذت مظهرها في صورة كل منهما وأوضاعه . فقد أخذ يبدو ذلك جليا في ذبول شكلهما وفتور نشاطهما وكثرة تفكيرهما . مما يسر لكل منهما أخيرا سبيل الإفضاء بأمره وعرض شكواه وأوجاعه على الآخر ولكن دون أن يفيدهما ذلك في استجلاء شيء من الحقيقة أو فهم سرها المكنون ، اللهم إلا ما يتبادلانه من المواساة ، وما يشعران به من الأنس ولو كان مجهولا مصدرها . 
وبينما كانا ذات يوم مجتمعين في بعض خلواتهما ، إذ لمح تاج الدين في يد ممو خاتما من الجوهر النادر يتألق في إصبعه ، فأمعن النظر فيه قليلا ، ثم قال : 
’’ لقد كان علي أن أبارك لك هذا الخاتم البديع ، ولكني لم ألمحه في يدك قبل اليوم ، فمتى استحدثته ؟‘‘ 
فنظر ممو في أصابيع يديه ، وهو لا يدري شيئا عما يقوله تاج الدين ، ليجد في مكان خاتمه قطعة من الجوهر الثمين لم يكن قط شعر بها من قبل ! وسرعان ما عمد إليها فأخرجها من إصبعه وقد استولت عليه دهشة بالغة ، ثم أخذا يمعنان فيه باستغراب وتعجب . وفي تلك الأثناء انتبها إلى اسم ’’ زين ‘‘ منقوشا عليه بأجمل وشي متألق من حجارة الماس والياقوت ، وقبل أن يبدي ممو عجبه لذلك الخاتم الذي لا يدري عنه أي شيء لاحظ بوحي الحالة خاتما تماما في إصبع تاج الدين ..! وقد نقش عليه بمثل ذلك الوشي والطراز اسم ’’ ستي ‘‘ . 
وغشيتهما الحيرة من جديد ، وازداد عليهما السر غموضا وأخذا يرددان في دهشة بالغة هذين الاسمين ’’ زين ‘‘ و ’’ ستي ‘‘ ، ولكن دون أن يتذكر أحد منهما من هما ستي وزين …!! 
وهنا رفع رأسه إلى ممو ، ونظر إليه كالمحموم قائلا : 
’’ ويحك إنهما خاتما الأميرتين … أميرتي الجزيرة … شقيقتي الأمير زين الدين …‘‘ 
وعاد كل منهما يحملق في الخاتم الذي بيده مرة أخرى ، ويمعن في نقشه وتألقه الرائع مما أكد لهما أن صاحبتيه ليستا سوى أختي الأمير .! ومن بين ذلك البريق المتألق أخذ سرهما الذي كان غامضا يجلو ويبين ، وذهبت ذاكرة كلم منهما تعود أدراجها إلى الماضي …. الماضي الذي كان غيبا عنهما إلى تلك اللحظة . 
لقد تذكرا أنهما في يوم النوروز حاولا رؤية هاتين الأميرتين ، ولكنهما لم يريا واحدة منهما بين الوجوه والأشكال . ثم تذكرا ساعة العودة .. وتذكرا أنهما لمحا في تلك الأثناء شابين لا كالشباب .. كانا في غاية الروعة والجمال .. وأنهما قد دنيا منهما ليعرفا من يكونان … و … إلى هناك توقفت الذاكرة بهما ! غير أنهما لم يشكا في أن شيء غير طبيعي قد حدث لهما إذ ذاك بسبب ذينك الشابين ، وأن الغشية التي حبستهما في الفلاة تلك الليلة كانت من أثر ذلك الحادث ، ولا بد أن هذين الخاتمين قد وجدا لديهما منذ تلك الليلة . وأخيرا استطاعا أن يتأكدا من أن ذينك الشابين لم يكونا سوى الأميرتين اللتين كانا يبحثان عنهما ، وأنه قد قام لديهما أيضا ما كان قد قام في ذهنيهما من فكرة التنكر … وإخفاء الحقيقة … أما الخاتمان فلم يشكا في أنهما إنما تركتاهما في يديهما واستبدلتا بهما ما كان معهما لشعور جميل على الأقل بادلتاهما به . 
وبارتفاع الستار الذي كان حائلا دون فهمهما لتلك الآلام والاحساسات التي كانت تساورهما ، شعر كل منهما براحة وانطلاقة هدأتا من حاليهما . غير أن ذلك الشعور ما لبث أن أوجد في نفس كل منهما تأثيرا مختلفا عن الآخر . أما تاج الدين فقد استطاع أن يتغلب بذلك على آلامه ، وأن ينشط ولو إلى حد من ذلك الارهاق الذي كان يعانيه . وكأنما كان معظم آلامه تلك آتيه من تعمي الأمر وغموضه عليه . وأما ممو فإن انقشاع الحقيقة بالنسبة إليه ما لبث أن أضرم جذوة ناره وزاد في دقات قلبه ، وكأنما كانت روحه قبل ذلك تائهة عن الطريق الذي اهتدت إليه ، ضالة عن الذات التي شغفت بها . أما اليوم وقد إتضح كل شيء ، وظهر انسان تلك الروح ، فهيهات منها الهدوء ما دامت بعيدة عنه ، وهيهات أن لا تثور وتضطرب إلا بعد أن تلقاه وتركن إليه . 
وشعر تاج الدين بمعاني الأسى بادية في مظهر ممو فنهض اليه ، وألقى بيده على كتفه قائلاً : 
’’ إسمع يا صديقي : إن من الامعان في الخطأ أن نسلم أنفسنا إلى اضطرابات من هذا النوع ، فلن تكون النتيجة بعد ذلك سوى استفحال تأثيرها واشتداد وطأتها . ولا ريب أن ذلك ليس مناسبا لمثلي ومثلك … فكلانا في هذا البلد معروف بالجلد والإقدام وكل منا تعرفه هذه الجزيرة بالبطولة والعزم والبأس ، فماذا عسى أن يكون أثر هذا الذي نعانيه في سمعتنا إذا عرف ذلك غداً بين الناس ؟؟ وماذا سيلحق بنا إذا تسامع الناس بحديثنا … وكيف أننا ونحن أولو العزيمة والشجاعة والبأس قد تخاذلت عزيمتنا وانهرات شجاعتنا وتبدد بأسنا بسلاح امرأتين وقوتهما فقط ..؟؟ فلينهض كل منا من فراش هذا الفتور ، ولنمط عنا رداء التوجع الوهمي الذي إنما أسبلناه نحن على نفسنا ولنتذكر أننا أشداء … وأنه لا يمكن للوهن أن يتخذ طريقه إلى نفوسنا ..‘‘ 
ولكن ممو لم يكن يبدو عليه أنه يعي شيئا مما يقوله تاج الدين ، فقد كان واضحا أنه كان يقاسي آلاما عنيفة جلية في خفقات قلبه الظاهرة وعينيه المخضلتين . كان الاسم الوحيد الذي يردده هو ’’زين ‘‘ ،وكان الشيء الوحيد المنتبه إليه هو الخاتم الذي في يده . فقد كان مرة يحملق فيه ، وأخرى يقبله ويظل ضاماً عليه شفتيه . 
وأخيراً نظر إلى تاج الدين وقال له : 
’’ أخي : إن هذا الذي تحدثه الآن ليس ذلك الذي عرفته ، إنما هو اليوم انسان آخر ، فلا تبحث فيَّ عن شيء مما تسميه البأس والجلد والعزم . فقد والله فقدت كل ذلك ، وليس الذي تراه الآن إلا جسما متهلهلا قد عشش الألم في كل نقطة منه . وقلبا متأجاجاً تتقد فيه نار لا تعرف هولها ، أما الراحة والطاقة والجلد والصبر ، فقد انتهت علاقة كل ذلك من سائر جوارحي وجسمي فدعني على الأقل أستقبل قدري إن لم تكن تشعر بالمعذرة لي ..‘‘ 
ولم يكد تاج الدين يسمع هذه الكلمات من ممو حتى أيقن أن الأمر قد تجاوز به إلى حالة لا تغني فيها النصيحة والإرشاد ، وامتزجت في سائر مشاعره رقة شديدة من أجله لم يستطع حيالها إلا أن يعتصم بالسكوت .

عجوز القصر

ولنترك الآن حديث ممو وتاج الدين لنعود إلى القصر ونعلم ما الذي كن من أمر ستي وزين ، فلقد رجعتا في تلك الليلة أدراجهما إلى القصر ، واستطاعتا دخوله دون أن ينتبه أحد إلى حقيقتيهما . ودون أن يرتاب أحد من الحجاب في أنهما من بعض الغلمان الحسان في القصر . 
وما إن تجردت كل منهما من ذلك المظهر الذي تنكرتا فيه وجلستا تستريحان من النصب الذي لحقهما في ذلك اليوم حتى أخذت كل منهما تشعر بقلق واضطراب واضحين في نفسهما ، ولم تكن إحداهما تعرف شيئا عن سر ذلك القلق أكثر من أن له اتصالاً بتينك الجاريتين اللتين حدث لهما ذلك الشأن العجيب . فقد كان منظرهما ، وهما على تلك الحالة من الذهول وعلى وجهيهما تلك المسحة من الجمال المشوب بسما الوقار – ملازما لخلدهما . وكانت تتضافر على ذلك عدة عوامل ، بعضها غرابة ذلك الحادث الذي أصابهما ، وبعضها التطلع إلى معرفة حقيقتيهما ومن تكونان من الناس ، وبعضها ذلك الشعور الغريب الذي أخذ يساروهما نحو تينك الجاريتين المجهولتين من حنان وإعجاب بل وحب آخ في الزيادة والإشتداد رغم أنهما امرأتان مثلهما على ما تظنان وتحسبان . 
وهكذا أخذ التفكير في الجاريتين يستولي تدريجيا على خيال كل منهما ، وبدأت تلك الأحاسيس تسيطر على قلبيهما ، فلم تكونا توجدان إلا مختليتين في بعض غرف القصر أو جهاته تتهامسان في هذا الشأن وتتبادلان إفضاء خلجاتهما النفسية حول ذلك . 
غير أنه لم يستطع أحد من سكان القصر رغم ذلك ملاحظة حالهما تلك سوى مربية عجوز لهما يقال لها ( هيلانة ) . كانت هرمة مسنة ، غير أنها أقوى من الدهر في مكره ، وكانت متغضنة الملامح باهتة الشكل إلا أن ذكائها كان فتيا يلتهب . فقد أخذت هذه العجوز تلاحظ أن حالة طارئة تطوف بهما منذ اليوم الذي خرج فيه الناس إلى مهرجان نوروز ، ومضت تراقب فيهما تطورات تلك الحالة التي لك تلبث أن اتخذت مظهرهما في كثير من أوضاعهما وأحوالهما ! 
وفي صبح ذات اليوم استأذنت عليهما فوجدتهما مطرقتين ذاهلتين ، وقد أخذ التفكير منهما كل مأخذ ، وتجلت مظاهر الحيرة والأسى على وجه كل منهما ، فدنت إليهما ، وجثت على مقربة منهما ، ثم قال : 
’’ بروحي يا أميرتيَّ الصغيريتين فديتكما ، وجعلت الله ربي حافظا لكما ، فأنتما انسان كل عين ، وحبة الشوق لكل فؤاد . يخيل إلي أن هذا القصر قد كمد بعض بريقه وتوارى من أنحائه الكثير من أنسه منذ اليوم الذي خرجتما فيه لمهرجان الربيع ثم عدتما بما تحملان من هذا الإطراق والتفكير والذبول .!! فهل لي أن أسأل عن السر الذي طواه مقدمكما ، أو عن الخمرة التي تسببت كل هذا في ذهولكما ؟ فقد أستطيع معونتكما في شيء إذا كان مستعصيا ، أو استخدام تدبيري وسحري إن كان خافياً ‘‘. 
فنظرت كل من ستي وزين الواحدة منهما إلى الأخرى ، كأنما تتشاوران في إفضاء الأمر إليه . ثم قال إحداهما : 
’’ إن كل ما حدث لنا أننا أصبنا – على ما يبدو – منذ ذلك اليوم بضيق وكرب لا ندري لهما سببا ، ويبدو أن شيئا بسيطا من أثر ذلك لا يزال يساورنا‘‘ ، 
فأدركت هيلانة أنهما تحاولان كتم الأمر عنها. ودعاها ذلك الإدراك إلى ظن أن يكون الأمر حبا أو غراما انعقدت نواته لديهما في ذلك اليوم . إذ كثيرا ما يحدث فيه أن يتصادف الشباب والفتيات وتتبادل الألحاظ مظاهر الفتنة والجمال ، ويحصل التعارف والتعلق … فدنت منهما ، ثم أخذت تقول لهما : 
’’ يبدو أنكما يا أميرتيَّ لا تعلمان بعد مبلغ ما آتاكما الله من سحر وجمال، وأنكما تجلسان منه على عرش عز على الدنيا كلها أن تجد لكما فيه نظيرا ، وإلا لأدركتما أن كل جمال في هذه الجزيرة خاشع منحن أمامكما حتى تثيرا الحيرة من أجله وتذكيا نار القلب من ورائه ؟ وهلا أخبرتماني عنه حتى تعرفا كيف يأتي أسيرا في قيود الهوى ، ذليلا تحت سلطان هذا السحر ؟!! ‘‘ . 
فأجابتها ستي : 
’’ ليس هذا الذي تظنين أيتها الخالة هو السبب في حيرتنا … إنما السبب في ذلك شيء آخر … كنا نود أن نستطيع إيضاحه والإبانة عنه حتى تعالجيه لنا بدهائك وتدبريك . ولكنه لغز … لغز مقفل من كل جوانبه لا نفهم شيئا عنه . كل ما نستطيع بيانه هو أن نقول لك القصة التي جرت … والأمر الذي رأيناه …‘‘ 
وهنا تبسطت العجوز في جلستها ، ومدت وجهها نحو ستي بعد أن أسندت أسفله إلى كفها قائلة : 
’’ حدثيني يا ابنتي عن القصة .. فلا بد لي إن شاء الله من كشف سرها وحل لغزها ..‘‘ 
ومضت تحدثها ستي القصة قائلة : 
’’ بينما كنا نمشي في ذلك اليوم … يوم الربيع بين المروج والرياض ، إذ فاجأتنا غادتين لم نر مثلهما لطفا وجمالا تقبلان نحونا في لهفة بادية وبخط متعثرة . حتى إذ أصبحتا على مقربة منا إذا بعاصف من الذهول الشديد يعصف بهما ويطرحهما في جانب من تلك الارض … ودنونا إليهما لننظر في شكليهما ونستكشف شخصيهما ، ولكننا لم نستطع أن نفهم عنهما شيئا ، فقد كانتا تبدوان غريبتين في زيهما وملامحهما . 
ووقفنا فترة أمام منظرهما وهما في تلك الغيبوبة وقد سرى تأثير شديد منه إلى نفس كل منا ، وشعرنا بروحين سرعان ما طافتا حول قلبينا ثم استقرتا في سويدائه … فإذا بهما يخفقان بمعان كثيرة من بعضها الحنان والحب . 
كانتا تبدوان أيتها الخالة كأبدع كآسين صافيين ، وإن كنا نحن الخمر التي تترقرق فيهما ، بل كانتا كأجمل مصباحين مضيئين وإن كنا نحن النور المتوقد من ذبالتهما . بل كانت في شكل أزهى مرآتين وضيئتين ، وإن كنا نحن الشمسين اللتين تشعان منهما . 
ثم تركناهما أيتها الخالة على تلك الحالة ومضينا … دون أن نعلم ما الذي تم بشأنهما . بل لم ندر أكان ذلك حقيقة أم رأته أعيننا ، أم حلما من أحلام تلك الطبيعة صورتها لنا خمرها ؟!! ‘‘. 
فأطرقت العجوز برأسها تحملق في الأرض وقد أدهشها ما سمعت ، ثم نظرت إليهما وقالت : 
’’ بل أظن يا أميريتي الصغيرة أن ذلك كما قلت حلما من أحلام الطبيعة .. أما أنه كان حقيقة رأتها عيناكما ، وأما أنه يقينا قد تعلق قلباكما من كل ذلك الجمع الحاشد من الشباب والفتيان بتينك الجاريتين المجهولتين . فذلك أمر مستحيل أو لعله واقع كما تقولين ، ولكنكما تمنيتما مثل تينك الجاريتين أطفالا لكما . لا أنكما شغفتما بهما حبا من دون الرجال . 
من الذي – يا بنيتي – يصدق أن المرأة يتم جمالها إلا إذا كان الرجل هو مرآة ذلك الجمال ، ومن الذي يصدق أن الرجل يمكن أن يكون لجماله معنى لو لم تأت المرأة لتضع فيه ذلك المعنى ؟ وهل أثبت جمال ليلى وفتنة حسنها لو لم ينعكس إليها تاج ’’ خاسرو ‘‘ وسلطانه !! وهل سمع أحد في الناس أن زهرة قد افتتنت بالزهر أو أن بلبلا غنى فوق أعشاش البلابل ؟؟! 
لا يا أميرتيَّ الفاتنتين ، ليس هذا الذي تقولانه إلا وهما من الخيال أو حلما من الأحلام . فلا تدعا للوهم والأحلام مجالا إلى قلبيكما …‘‘. 
فابتدرتها زين قائلة : 
’’ ولكنك قلت لنا أن لديك من التدبير والعزائم والدهاء ما تستطيعين الكشف به عن كل لغز وخافية . فهلا استعملت شيئا من ذلك في حل هذا اللغز .. أم يبدو أن عزائمك قد خرفت وتقدم بها السن ، فلم تعد تصلح لشيء . 
أما أن حديثنا هذا خيال أو وهم فليس كذلك ، وما هو والله إلا الحقيقة التي شاهدناهما بأعيننا ، ولقد دخل حب تينك الجاريتين في قرارة قلب كل منا . وسواء أكانتا في الحقيقة ملكين أو شيطانين أو امرأتين ، فإن عندنا منهما هذا البرهان الذي يؤكد أن ما رأيناه حقيقة لا خيال ، وهو هذان الخاتمان اللذان سللناهما حينذاك من إصبعيهما ليكونا عونا لنا في البحث عنهما ‘‘ . 
وعمدت إلى الخاتمين فألقت بهما إليها . 
فتلقفتهما العجوز ، ومضت تحملق فيهما وتقلبهما وتمعن في شكليهما ، ثم هزت رأسها وقال : 
’’ أما الآن فأستطيع أن أفهم شيئا مما تقولان ، وأستطيع أن أقول لكما إني عثرت على خيوط هذا السر الذي لا بد لي من كشف قناعه . ولكن لا بد لذلك لي من مهلة ، ولا بد أيضا من بقاء هذين الخاتمين لدي ‘‘.. 
فأجابتاها إلى ذلك بشرط أن تحافظ عليهما محافظة شديدة ، وأن تكتم الموضوع كتمانا تاما عن كل واحد . 
ثم إنها قامت عن مجلسهما بعد أن نفحتاها قسطا كبيرا من المال ، ووعدتاها بالمزيد عند نجاحها في المهمة . 

وإن هو إلا أمد قصير حتى كانت العجوز قد أوصلت نفسها إلى شيخ هرم في بعض أجزاء الجزيرة أمضى حياته كلها في علوم الحرف وحسابه ، حيث نقدته دينارا ، ثم جلست إليه تقول : 
’’ لي طفلان يتيمان أيها الشيخ هما سائر ما بقي لي من أمل في الحياة خرجا مع هؤلاء الناس – بحكم طفولتهما – إلى الفلاة في يوم عيد الربيع وهما بكامل وضعهما الطبيعي وعلى أحسن ما يكونان رشدا وعقلا ، فلما جاء المساء عادا إلى البيت وقد تشعثت هيأتهما ، وتمزق لباسهما ، ذاهلين لا يملكان وعيا ولا إحساسا ، مشدوهين كأنما قد أصيبتا بمس في عقليهما . وهما – أيها الشيخ – إلى هذه الساعة على هذا الوضع الغريب الذي لم أفهم له تأويلا . 
ولقد جئتك بخاتمين لهما ، لم ألمحهما في يديهما إلا منذ ذلك اليوم – ويخيل إليَّ أن فيهما سر الخمرة التي أودت بعقليهما إلى هذا الذهول – لكل تستعين بهما في استخدام طاقتك لاكتشاف حال هذين الطفلين وبيان حقيقة هذا البلاء المتشبث بهما ، أهو صرع وجنون .. أم خمر هو وعشق .. أم هو ماذا ؟؟!! 
ذلك رمز ألقيته إليك أيها الشيخ فافهمه . وهناك سر دفين في هذين الخاتمين فاعلمه . وحسبك أن ترشدني إلى صاحبيهما ، وتنبئني أهما ملكان يجوبان السماء ، أم شيطانان تحت الطوايا السبع ، أم بشران مثلنا فوق أديم الأرض ؟! ‘‘ . 
فأخذ الشيخ الخاتمين ، ثم أكب على دفاتره وحسابه … وأخذ ينهمك مرة في الحساب والترقيم ، ومرة في الإطراق والتفكير . 
وبعد قليل رفع رأسه إلى العجوز ، وأخذ ينظر إليها بعينين ذاويتين قد تغضن ما حولهما قائلا : 
’’ أو لا بد من كل هذا الكذب والتزوير أيتها الماكرة العجوز ..؟ 
تقولين طفلاك اليتيمان .. فهلا صدقت وقلت الدرتان اليتيمتان والغادتان النادرتان ؟ وتقولين صرع .. ومس .. وجنون .. فهلا أوضحت الحقيقة التي هي مس الروح للروح ، وتعلق قلب بآخر ؟ 
أما هذان الخاتمان ، فليس صاحباهما ملكين في السماء ولا شيطانين من الجن ، ولكنهما شابان معذبان ضاع قلباهما منذ ذلك اليوم المشهود وراء هاتين الغادتين اللتين تقولين عنهما ، طفلاك .‘‘. 
فهز رأسه مطأطئا وهو يقول : ’’ من غير شك .‘‘ . 
وهنا دنت إليه العجوز وقالت : 
’’ ولكني كنت أود أن أعرف من أي الناس هما ؟ وكيف العثور عليهما ؟ ألا قل لي أيها الشيخ وأوضح ، فإن لك عندي فوق ما تريد إن أنت كشفت الستار عنهما ، أو أرشدتني إلى جهتهما ومكانهما .‘‘. 
فقال لها : ’’ أما هذا فليس لي إلى فهمه سبيل ، وكل ما وراء الذي أخبرتك عنه لا يمكن الخوض في شيء منه إلا بالحدس والتخمين . غير أني أستطيع إرشادك إلى حيلة قد تنفذين منها إلى معرفتهما والإجتماع بهما ، وهي أن تنطلقي في شكل طبيبة ماهرة فتطوفي بمختلف أنحاء هذه الجزيرة وبيوتها ، وتلفتي الأنظار بلباقة وبراعة ، إلى أنك ذات خبرة ودراية بمختلف الأمراض النفسية والجسمية ، وأن لديك الوسائل المختلفة لمعالجة مثل هذه الأمراض وماواتها . فلا ريب أن هذين الشابين معذبين اليوم ولا ريب أنهما إذ يسمعان بأمرك يستدعيانك لشأنهما ومعالجة أمرهما . ‘‘. 
فأعجبت العجوز بهذا الرأي . ثم أعطته دينارا آخر ، وشكرته وانصرفت . 

الطبيبة السائحة

لم تعد العجوز هيلانة – بعد مغادرتها لذلك الشيخ – إلى القصر ، وإنما بادرت في إعداد العدة وتهيئة الوسائل لكي تصبح طبيبة . وبعد حين أصبحت ذات منظر جديد وشكل غريب … حيث ارتدت فوق ثيابها رداء سابغا فضفاضا قد شق من أمامه فبدا من تحته ما علقته على كل من جنبيها من الحقائب التي ملأت بعضها بزجاجات وعقاقير . .. وحشت بعضها الآخر مباضع وهنات مختلفة من كل ما يحتاج إليه الطبيب الماهر .. ثم استوت على ظهرها وانطلقت تطوف بالأحياء ، وتؤم المجالس والبيوت ، تتسمع خبر أي مريض مطروح أو متألم موجوع ، لكي تأخذ طريقها إليه متبرعة بمعالجته ومواساته .
وهكذا بدأت توحي إلى الناس بأمكر أسلوب مبلغ ما اوتيته من براعة في فن الطب بمختلف أنواعه…
ولم تمض سوى برهة حتى كان اسمها قد انتشر في كثير من أنحاء الجزيرة ، وتسامع الناس بأن عجوزا سائحة قد وصلت إلى الجزيرة ، تعالج أنواع الامراض والأدواء المختلفة بمهارة فائقة . وكان ممو وتاج الدين إذ ذاك قد سائت بهما الحال أكثر من الأول وأصبح كل منهما نهبا لأفكار وآلام متواصلة مما لفت إليهما أنظار ذويهما بل معظم أصحابهما ولكن دون أن يعلم أحد بحقيقة الأمر أو يدرك شيئا مما حدث لهما .
ولم يكن – في الواقع – منشأ تلك الآلام والأفكار واحداً بالنظر اليهما ، بل كان مختلفا إلى حد بعيد . أما ممو فقد كان السبب في ذلك زيادة تعلقه وتفاقم وجده .. فلم يكن يقر له قرارا أو يلين لجنبه مضجعا منذ عرف أن التي ضاع عندها رشده إنما هي أميرة الجزيرة .. ومنذ أخذ يفكر كيف أن تلك الغادة الحسناء رأفت بقلبه ورقت لحاله ، فتركت خاتما الدري في يده لكي ينوب إشراقه عن ابتسامتها عندما يغيب طيفها عنه ، ولكي يقوم مقامها في مواساته إذا تلظى منه القلب . كان ذلك التفكير يستحيل نارا تتقد في أحشائه وتسعر كل مشاعره وأحساسيه ، وكانت تزداد ثورة هذه الآلام في نفسه حينما يقعد ليفكر في شخصه وفي مركزه البسيط الذي لا يجعله اهلا لأن يتقدم إلى الأمير زين الدين لخطبة أخته . بل لا يعقل من الأمير أن يقبل مثله صهرا له من بين مختلف أفراد حاشيته ووزرائه . فكان ذلك يزيد في آلامه مرارة اليأس , ويسلمه إلى زفرات طويلة تكاد تشق صدره .
أما تاج الدين فعلى الرغم من أنه أيضا كان متعلق القلب بصاحبة الخاتم الذي في يده ومنصرفا بمشاعره نحوها إنصرافا تاما ، إلا أنه لم يكن يقاسي في ذلك مثل آلام ممو وثوراته النفسية . ويبدو أن السبب في ذلك هو أنه كان ذا أمل قوي في الوصول إليها ، ولم يكن يخامره شك في أن الأمير لن يتردد في قبوله صهرا له .. فهو ابن وزير الديوان ، وهو أحد أشقاء ثلاثتهم عمدة الأمير في كثير من الظروف والاحوال ، والأمير نفسه يدرك أن مصلحته تقضي بإكرامهم وتقريبهم منه .
ولكن تاج الدين كان يعاني أفكارا أخرى تؤلمه وترهق مشاعره إرهاقا شديدا ، ولا يهتدي إلى مخلص منها ! فقد كان ممو كما قلنا صفيه الوحيد من دون الناس كلهم ، وكان ينزله من قلبه منزله شقيقه .. بل أسمى من ذلك وأعظم .. ولم يكن يخفى عليه ما يقاسيه من وجد وتحرق ..فكان يقعد ليفكر في أن مركزه كسكرتير للديوان لا يؤهله لأن يتقدم إلى الأمير بطلب يد أخته منه ، ولكن لا يعقل أيضا أن يمضي هو متنعما بمراده تاركا خليله الوحيد وراء ظهره يتقلب في ناره . فكيف التدبير وما العمل ؟! .. أيضحي بقلبه وسعادته من أجل صديقه ممو ويظل إلى جانبه يواسيه ويقاسمه ضره ؟ أم يبحث عن سبيل لإمكان وصولهما معا إلى أمنيتهما المنشودتين ؟ ولكن كيف العثور على هذا السبيل الخفي الشائك ؟؟!! ..
وهكذا أضحى كلا الخليلين مظهرا للقلق والتفكير الدائم مما جعلهما محورا لتفكير الاهل والأقربين ، والحيرة في شأنهما .
وذات أمسية ، وبينما كان ممو و تاج الدين جالسين في ركن من قاعدة الضيافة التابعة لدار تاج الدين وشقيقه مع زمرة من الأهل والأصحاب يتسامرون ، مرت من أمامهم الطبيبة العجوز وألقت التحية عليهم ، وكانو قد سمعوا باسمها وتذاكر معظمهم في استدعائها لعرض حالة ممو وتاج الدين عليها ، فردوا عليها التحية وطلبوا إليها الجلوس معهم بعض الوقت . وبعد أن استقر بها المجلس سألها عارف قائلا : ’’ من أين أنتي ايتها الخالة وما شأنك ؟‘‘ .
– ’’ أما أنا فمن قرية صغيرة تقع وراء ذلك الجبل وتبعد عنه قليلا ، وأما شأني طبيبة أسيح في أنحاء البلاد لإغاثة المرضى ومعالجة شوؤنهم ..‘‘.
– ’’ وما هي الأمراض التي تعالجينها ؟؟ ‘‘ .
– ’’ الواقع أنني اشتهرت في المهارة في معالج الأمراض النفسية والروحية فقط. غير أني استطيع بحكم مراني الطويل معالجة غير ذلك أيضا من الأمراض البدنية ..‘‘.
وهنا فاجأها تاج الدين من ركن بعيد في المجلس قائلا :
– ’’ مذا تعرفين من الأمراض الروحية ايتها الطبيبة ؟؟ ‘‘ .
فالتفتت العجوز صوبه واخذت تلحظه بعينيها الضعيفتين حينما كأنما تريد أن تعرف من هو هذا الذي يسأل عن الروح وأمراضها .
ثم قالت له وقد خالها شك في أن يكون هذا أحد اللذين تبحث عنها :
-’’ أعرف يا ابني من هذه الأمراض أنواع كثيرة ، كنت قد عالجتها في كثير من الناس ، فهل تشكو – لا سمح الله – شيئا منها ‘‘.
وقبل أن يجيبها تاج الدين بادرها ممو قائلا :
-’’ ما هو أشد أنواع هذه الأمراض أيتها الخالة ؟؟ وهل لكي أن تصفيه لنا وتحدثينا عنه ؟ ‘‘.
فنظرت اليه وقد قوي شكها وغلب على ظنها أنها أمام ضالتيها المنشودتين . ثم تنهدت بعمق وقالت له :
’’ أشد أنواع هذا المرض يا بني ، نوع – لا أذاقك الله إياه – يسري من الألحاظ . ويسلك طريقه في الألحظ .. ثم يتخذ مستقره في القلوب . هو في أول أمره رعدة في المشاعر ، ودقات بين ألواح الصدر ، وتلون على ملامح الوجه . فإذا نمى وترعرع فهو برق يستعر وميضه في الأحشاء ، تتلظى الجوانح بناره من غير لهب ، ويشوى الفوائد في وهجه من غير جمر . ثم إذا استقر وتمكن فهو نهش وفتك لسويداء القلب ، يجرحه بلا مبضع ، وينزعه من غير سنان . فهناك يشخب دمه منهمرا من العينين ، ويذوب الجسم بين بوتقة الحشا وزفرات الصدر . وهناك لا يغني الطبيب ولا عقاقيره ولا يجدي سوى أن تتضامن الروح وتتطأ النار ببرد الوصال ‘‘ .
وسكتت العجوز هنا .. فقد لاحظت نشيجا قويا بدا يتعالى من صدر ممو الذي لم يعد يملك دموعه ، واصفرارا شديدا تلطع به وجه تاج الدين الذي أطرق ذاهلا ، واتفتت إلى بقية الجالسين وقد خشعت ملامحهم ، وداخلتهم رقة شديدة من أجل ذينك المسكينين الذين لم تعد تشك في أنهما ضحيتا الأميرتين في اليوم التاريخي الفائت .
ثم أنها قامت من مكانها تؤم الركن الذي كانا يقبعان فيه وربتت على كتفيهما قائلة :
’’ لا بد أنكما يا ولدي تعانيان مجهودا أو ألما من هذا النوع ، ولكن لاضيرعليكما ، فإن دوائكما عندي ‘‘.
ثم توجهت إلى بقية الحاضرين وقالت :
-’’ لا بد لي من تشخيص أمر هذين الشابين ، ولابد أن يكون ذلك على خلوة معهما ، فهل أستطيع أن التمس منكم الموافقه على ذلك !! ‘‘ .
وبعد قليل .. كانت الغرفة قد أصبحت خاليه إلا من المريضين .. وطبيبتهما التي أخذت تسرح فيهما وتقلبه لتجد شابين رائعين لم يتخطيا ربيع العمر ، تبدو على مخايل كل منهما معاني العز والمجد ، إلى جانب ما يظهر في شكليهما من سيما الروعة والجمال ، على الرغم مما اصطبغت به ملامحما من مظهر الكآبة والإنكسار .
وبعد أن مضت تواسيهما مستدرجة لهما في الحديث عن شأنهما وقصتهما إلى أن فهمت كل شيء ، فابتسمت قائلة :
’’ ليطب خاطركما يا ولدي ولتقرعيناكما فما أنا والله إلا رسولا من أميرتي بوطان إليكما لأسري عنكما وأواسي جرحكما ، وها هو ذا خاتم كل منكما …
ولم تكد العجوز تنطق بهذه الكلمات وتمد يدها لتريهما الخاتمين حتى دار بكل منهما فضاء ، وغشيتهما موجة شديدة من الذهول لم يستطيع ممو أن يثبت بأعصابه أمامها فهو كطفل صغير يقبل إلى أحضان العجوز يقبل أذيالها ويتشبث بأطرافها دون أن يملك رشدا . بينما ظل تاج الدين فترة من الوقت مشدوها يحملق في العجوز دون أن يستطيع نطقا أو يملك حراكا ..
أما العجوز .. فما إن أبصرت منظرهما ذاك ، وما آلت إليه حالهما ، حتى داخلتها رقة شديدة من أجلهما ، وفاض قلبها حنانا لهما ورحمة ، فأخذت بيمين كل منهما قائلة :
’’ لا داعي إلى كل هذا الهم والغم يا ولدي … فوحق الله المعبود لم أدعكما ما حفلني التوفيق حتى أبلغ بكل منكما إلى أمنيته وهواه .. ولن يطيب لي الموت إلا بعد أن أراكم أنتم الأربعة … وقد جمعكم الشمل وأظلكم نعيم الوصال وما على كل منكما الآن – لكي أستطيع الشروع بالمهمة منذ الساعة – إلا أن يخبرني عن اسمه ويطلعني على شأنه ومركزه في هذه الجزيرة . كما وأرجو وقد اتيتكما بخاتميكما أن تسلماني هذين الخاتمين لأعود بهما إلى صاحبتيهما تجنبا لإفتضاح الأمر .. ولن تطول غيبتي عنكما ، بل لا بد أن أعود إليكما قريبا بالجواب .
فتهللت أسارير تاج الدين ، وقام فأعطاها خاتم ستي الذي كان معه بعد أن عرفها باسمه وشأنه ، أما ممو فإنه أطرق قليلا ثم قال للعجوز :
’’ لعلكي يا سيدتي تعذرينني إذا قلت بأنه ليس بوسعي إعطاء هذا الذي تريدين .. ولعلكي تصدقينني إذا حلفت لكي بأن هذا الخاتم الذي عندي هو اليوم بقية روحي التي تخفق بين جنبي ! ومن ذا يستطيع أن يعمد إلى روحه فينتزعها ؟! … لا يا سيدتي … إنني أتشفع إليك بناري التي تذيب أحشائي ، وأتوسل إليك باسم ( زين ) أن تتركيها في هذه البقية من الرمق ، وتدعي هذا الخاتم في يدي …‘‘.
وسكت قليلا كأنما يغالب آلاما تثور في نفسه . ثم مضى في حديثة يقول :
’’ والآن دعيني يا أماه .. وأنتي رسول قلبي الضائع … أبثك رسالة نفسي إلى ربة هذا القلب : قولي لها أنه مسكين من الناس … لا يبلغ أن يكون كفؤا لذوي الإمرة والسلطان . غير أن سهام الحب طائشة .. لم تكن تفرق يوما ما بين فؤاد مسكين وأمير ، وهو اليوم لا يتطاول إلى مركز ليس أهلا له ، ولكنه يتطلع إلى عطف من شأن الامراء أن يشملو به عامة الناس ، وحسبه من هذا العطف أن تخطريه على بالك بين وقت وآخر .. وأن تسالي عن حاله ولواعجه بين الفينة والأخرى ‘‘…
فتأثرت العجوز من لهجة كلامه ، ولم تجد بدا من أن ترحمه فتدع الخاتم في يده . وبعد أن حاولت مواساتهما فترة من الوقت قامت فودعتهما .. ووعدتهما في العودة بأقرب حين .

إنه الحب

ولنسرع الآن إلى القصر قبل عودة العجوز ، لنعلم ما الذي آلت إليه حال ستي و زين ، منذ أن خرجت من عندهما ولم تعد .
والواقع أنهما أخذتا تنتظرانها على أحر من الجمر ، وترقبان رجوعهما بين كل ساعة وأخرى . فقد تركتهما لتذهب فتستكشف لهما السر المخبوء ، وتأتيهما بالخبر اليقين عن حقيقة تينك الجاريتين اللتين شغلتا قلبيهما و فكريهما ، ولكنهما ذهبت ولم تعد .. ! وبطول غيبتها عنهما استبد بهما القلق وزاد اضطرابهما ولم يعد يقر لهما قرار ، ويهنأ لهما مأكل أو مشرب ، وأخذ الفكر يذهب بكل منهما مذاهب متشعبة فيما يمكن أن يكون السبب في تأخر عودة العجوز !
وبينما كانتا ذات يوم جالستين في إحدى مقصوراتهما الخاصة من القصر تتحدثان ، إذا بطارق يستأذنهما في الدخول . وما إن توجه نظرهما نحو الباب ، حتى أبصرتا العجوز بوجهها المتغضن وظهرها المنحني واقفة أمامهما ، ترمقهما بابتسامة عريضة ذات مغزى …
وهبت الأميرتان تطوقانها ، وتبثانها شوقهما ، ثم أسرعتا فأجلستاها بينهما ، وأخذتا تسألانها عما استطاعت أن تصل إليه في كل هذه الغيبة من المعلومات ، وعن مدى ما كشف لها علمها وبحثها عن سر تينك الجاريتين ومكانهما .
فقالت لهما وهي لا تزال تلهث من التعب :
-’’ أقسم لكما أميرتيّ بالخالق الذي أولاكما هذا السحر والجمال أنني آتية الآن من عندهما . وإن قلبي لا يزال يخفق رحمة وحنانا لمنظرهما . وا كبدي لهما يا ابنتي … كلما سمعا باسم ستي وزين التهب فيهما الدم نارا ، وتمشت في أوصالهما رعدة تثير الرحمة لهما والإشفاق .
هما والله يا ابنتي خير شابين أبدعهما الله لطفا وجمالا وشهامة وكمالا . وما عجبي من ذلك بمقدار عجبي من أنكما – فديتكما – كيف وفقتما لانتقائهما . واهتديتما في ذلك الجمع الحاشد إلى مكانهما ! فهما والله – سواء أكانا أميرين أم زعيمين أم بسيطين من الناس – خير كفؤين لكما ، ولائقين لجمالكما .‘‘
وكان طبيعيا هنا أن تتملك كلا من ستي وزين حيرة بالغة وتطوف بهما دهشة شديدة من هذا الكلام . فقد كانتا تتصوران كل محتمل لشأن الجاريتين ، سوى أن تكونا رجلين من الناس قام في ذهنيهما ذلك اليوم مثل ما قام لديهما أيضا من التنكر وإخفاء الحقيقة … فلم يكن ذلك الأحتمال ليتطرق إلى خيالهما قط .
واستفاقتا من حيرتهما ودهشتهما لتشعرا بلواعج حب شديد قد ظهرت في مشاعرهما ، وأخذت تتضرم سعارا في قلب كل منهما . كانت في الماضي آلاما واضطرابات حول السر المخبوء الذي لا تعرفانه ، ولكنها اليوم أصبحت حقيقة أخرى ذات خطورة أشد .. فهي الحب .. الحب الذي بدأت رعدته تسري في مشاعر كل منهما من الفرق إلى القدم !
ثم أنه لم يطل التفكير في الموضوع بعد أن شرحت العجوز لهما عن تاج الدين وممو كل شيء .. وبعد أن نظرتا حولهما فلم تجدا سوى العجوز التي قد أضحت خبيرة بحالهما مطلعة على سرهما . فقالت لهما إحداها :
– ’’ لعله ليس خافيا عليك – أيتها الخالة – أن خبرك هذا زاد في قلب كل منا آلاما طارئة .. وأرهق مشاعرنا بإحساسات جديدة .. ولسنا نرى غيرك الطبيب لآلامنا ، ولن نجد إلا لديك العلاج لقلبينا . ولن نقدر أن نتصرف في شىء من هذا الأمر إلا بسعيك ، ولا نتكلم عنه إلا بلسانك . فهل لك أن تتحملي من أجلنا شيئا من الجهد وتكوني لساننا الناطق في هذا السبيل !‘‘.
فأجابت العجوز متهللة :
’’ إنني منقادة يا أميرتيّ كل ما تبغيانه وتأمرانني به . وأي جهد هذا الذي سيلحقني في سبيل إسعادكما ؟ بل أية راحة سأشعر بها ما دمتما معذبتين كما أرى ؟ ‘‘
فقالتا لها :
’’ إن كل ما نبغاه هو أن تسرعي فتعودي إلى ذينك الشابين لتنوبي عنا في مواساتهما ومعالجة شأنهما ، إذ لا ريب أنهما الآن يعانيان مزيدا من الآلام التي حدثتنا عنها . هدئي أيتها الخالة من كربهما ، وامسحي بدلا عنا بيمينك زفراتهما ، قولي لهما : انعما بالاً ، فلستما وحيدين في هذه المشاعر والآلام . إن تينك اللتين صرعكما حبهما في ذلك المساء … بين تلك الشعاب … تذوقان معكما على البعد مثل ذلك . كان قبل اليوم عطفا عليكما ورقة من أجلكما ، وهو الآن حب يخفق به قلبيهما كما يخفق منكما ذلك وتقاسيان منه كما تقاسيان ولئن استطعنا أن نكتم هذه اللواعج إلى اليوم ، فإن ذلك لسلطان الحياء و حاجبه المسدل علينا .. و لقد آن لهذا الحجاب أن يزاح عنكما .. لتعلما أننا قد ارتضيناكما رفيقني لحياتنا حسب الإختيار الذي دل عليه خاتم كل منا منذ لقائنا في ذلك اليوم المشهود . ولكل منكما إذا شاء أن يتقدر اليوم إلى الأمير لخطبتنا منه . فيسع إليه عن كل منكما أناس يعرضون عليه الخطبة . وآخرون من ذوي الشأن يتوسطون إليه في رجاء القبول . أما المكان والشأن .. والغنى والمال والمهر .. فقولي لهما أنهما رضيتا من ذلك كله بالحب الذي خفق في قلبيهما منذ ذلك اليوم واتضح مدى إخلاصه .
وكل ما امتدت إليه طاقتهما بعد ذلك من الدنيا وأسبابها فهو منهما مقبول وجميل .. هذه هي رسالتنا – أيتها الخالة – بلغيها عنا إليهما على أحسن وجه ، فعسى الله أن يكون مقدرا لنا في أزله سعادة الواصال ، كما قدر علينا في غيبه ارتشاف كأس هذا الحب . ‘‘ .
البشرى

ليس أجمل لنفس العليل المدنف الذي تسعرت جوانحه في سموم الحب من ساعة تفجؤه ببشارة الوصل والرضى ، وتحمل إليه من محبوبه صوت الحنان والعطف فينتفض قلبه بذلك من مرارة اليأس وآلامه . إن فيها لحنا تعجز عن أداء مثله الأوتار ، وجمالا لا يشع مثله من منظر الخمائل والزهور ، وفيها نشوة لا ينبعث سرها من سائر أنواع الخمر .!
إنها تلك الساعة التي طنت دقاتها في مسمع ممو وتاج الدين حينما عادت العجوز إليهما بمظهرها الأول حيث أهدتهما البشارة على أحسن وجه ، وبلغتهما رسالة الأميريتن بالنص . ولم تكن رسالة وبشرى فقط بل كانت بلسما لدائيهما ، وروحا جديدا سرت في جسميهما .
وغمرت العاشقين لحظات من النشوة والفرح ، وطاف بهما من حديث العجوز أريج عطري بديع ، وتموجت في سمائهما من صداه أنغام سحرية سرت في مشاعرهما ، وأسكرت لبهما . ثم قام فنفح كل منهما طبيبته المبشرة ما استطاع من الهدايا والمال لقاء تلك البشرى التي زفتها إليهما .
وهب الصديقان يسرعان إلى الأقارب والأصحاب يقصان عليهم لأول مرة قصة حبهما ، ويبلغانهم البشرى التي وصلتهما . فعمهم الابتهاج والفرح ، لا سيما عارف وجكو اللذين كانا في حيرة بالغة من أمر أخيهما تاج الدين وصديقه .
وفي صباح اليوم التالي تألف منهم جمع من وجوه الجزيرة وأعيانها وعلى رأسهم شقيقا تاج الدين ، وانطلقوا متوجهين إلى قصر الامير زين الدين ليكلموه في الشأن ويلتمسوا منه قبول هذين الصديقين صهرين له . ولكنهم رأوا فيما بينهم أنه لا بد لكي يضمنوا إجابة الأمير لخطبة ممو أيضا أن يلتمسوا أولا يد الأميرة ستي لتاج الدين دون أن يذكروا شيئا عن صاحبه ، فإذا ما أجاب اتخذوا من ذلك فيما بعد وسيلة لالتماس يد الأميرة زين لممو ، وسيمهد ويهيئ لذلك ما سيحدث من احتكاك ممو بالقصر وتقربه إلى الأمير بسبب ما بينه وبين تاج الدين من المودة والعلاقة الشديدة.
ودخل الوفد ديوان الأمير .. وأدوا أمامه مراسم التحية والإجلال .. وبعد أن استقر بهم المكان نهض عارف مستأذنا الأمير في الكلام ثم قال :
– ’’ مولاي صاحب السلطان : إن لنا في عطفكم الذي امتد ظله مع امتداد سلطانكم الشامل ما يشجعنا على أن نعرض في رحابكم هذا الرجاء :
لا ريب يا مولاي أن العزيز منا من شرفته بعنايتك ، ولا يفيده بعد ذلك أن تحاول الدنيا إذلاله ، والمهين من حرم من عطفك ، ولا تغنيه بعد ذلك أي قوة يركن إليها أو سلطان يعتز به .
وإن تاج الدين يا مولاي وإن كان له في سلالته فخر الإمارة والمجد إلا أن شيئا من لك لا يقدمه إن لم يشرفه فخر النسبة إليك .. وهو اليوم يأمل من مولاه أن يتفضل عليه بفخر هذا النسب .. ملتمسا منه يد الأميرة ’’ ستي ‘‘ ولقد سعينا إلى رحابكم لعرض رجائه هذا مع عرض أملنا عليكم في قبول هذا الرجاء . فهو يا مولاي أخلص خادم يستأهل عطفكم ، ولعله أليق شاب بالتشرف بمصاهرتكم . ‘‘.
ثم عاد عارف فجلس في مكانه . وتعلقت أنظار الجميع بشفتي الأمير ينتظرون جوابه . ولكن الأمير لم يطل تفكيره ، بل سرعان ما نظر إليهم قائلا :
’’ الحق أنه ليس لدي ما يمنعني من الإجابة إلى ما تطلبون ، بل أنا سعيد بموافقتكم فيما أجمعتم على رؤيته لائقا وموافقا . فليتقدم إلينا من كان وكيلا عن تاج الدين في هذا . واطلبوا لنا القاضي الذي إليه إبرام العقود ، فقد قررنا عقد نكاح ستي على تاج الدين منذ الآن . ‘‘.
فهب جكو من مكانه منكبا على يد الأمير يقبلها ويشكره بحرارة ولهفة وتابعه الجميع يشكرونه على تفضله وعطفه . بينما تابع الأمير حديثه قائلا :
’’ لا ريب أن هذا الشاب قد أمضى أياما طويلة في خدمتنا ووقف حياته بإخلاص لنا . وإن من شروط الوفاء علينا أن نقدر فيه إخلاصه ، ونؤديه حق خدمته ، وأن نقوم بواجب هذا الوفاء له اليوم . ولا بورك لي في الإمارة والسلطان إن لم أعطه حقه كاملا غير منقوص ، وإن لم أجعل له في رحاب قصري هذا محفلا تزدان فيه الولائم والأفراح ليالي وأياما ‘‘ .
ثم التفت فاستدعى رجال القصر قائلا :
’’ عليكم أن تبادروا من الآن في إعداد العدة وتهيئة الوسائل والأسباب لإقامة الأفراح ومجالس الصفو والمرح . هيئوا لها كل ما طاب من أنواع الشراب ، وادعوا إليها كل أصحاب الطرب والغناء ، فلسنا نضمن من الحياة إلا هذه السويعات التي حولنا .لسنا ندري وليس أحد يدري أسوف نظل في مثل هذا الحين من الغد نملك حياتنا ، أم سيتخفطها منا القدرالمحتوم .
هذه الحياة وبهجتها ، وهذا السلطان وأبهته ، وهذا الفلك الدائر من حولنا ، كل ذلك مظاهر لااطمئنان إليها ولا أمان لها ، هذه الأشكال التي يتضرب فيها النور الساطع بالظلمات القاتمة ، وهذه الصور التي تمتزج فيها النور الساطع بالظلمات القاتمة ، وهذه الصور التي تمتزج فيها مباهج الأفراح والأعراس بمآسي المآتم والأحزان ، كل ذلك يحذرنا من تفويت الفرص بعد حلولها وينبهنا إلى تدارك ساعات اللذه قبل غروبها . فالدهر لم يكن يوما ما يفرق في خداعه بين شيخ وأمير ، وسلطان وفقير ‘‘.
ثم التفت إلى شقيقي تاج الدين ومن معهما ، وابتسم قائلا :
’’ فلأكن واحدا منكم من أجل تاج الدين اليوم . ولتحسبوني من جملتكم في السعي إلى هذا الطلب ، والقيام في سبيل إرضائه ..‘‘
وفي مساء اليوم التالي كان القصر قد أمسى قطعة من الفردوس ، مما كان يتألق فيه من مظاهر البهجة والزينة وتتراقص في كل أنحائه كل معالم المرح والترف ، كما غص كل نواحي القصر وأطرافه بمختلف الطبقات والأشكال من الناس . وأقيم في ردهته المتسعة خوان عظيم امتد به الطول والعرض امتدادا شاسعا ، وصفت من فوقه عشرات الطباق الفضية التي استدير بعضها على شكل نجوم ، وقوس بعضها الآخر على شكل أقمار ، وأقيم فوقها قباب من أغطيه فضية تتألق في هندسة ما تحتها وشكله ،وقد كمن تحت كل منها خروف مشوي لم تمس هيأته ولم يتغير شكله ، كما حشر بين ذلك مئات من أطباق الفاكهة والحلوى ومختلف ألوان الطعام و نثرت في سائر الأطراف كؤوس يترقرق فيها ألوان الشراب .
ولم يكد العشاء يرتفع حتى بدأ الحفل من جديد ، واتخذ الناس أمكنتهم في الشرفة الواسعة التي تطل على حديقة القصر . وجيء بمختلف ألوان الشراب في أباريق مفضضة بديعة ، يديرها غلمان قد أفرغوا في أروع قالب من اللطافة والخفة والجمال . وأدير أرق أنواع العطور ، فانتشر شذاها في الحاضرين متهاديا مع نسيم الليل وأضوائه . ومع حفيف ذلك النسيم أخذت أصوات الغناء تنساب إلى الآذان في جو حالم خلاب بألحان الفرح والبهجة . فرادى حينا ، وحينا تنساب أصواتهم جميعا في مقامات وألحان سحرية تتردد أصؤها حلوة بديعة بين حفبف تلك النسمات العطرة التي تداعب القوم في سكون حالم .
وفي تلك الأثناء أخذت أنظار الجميع ترتكز على مقعد في صدر المكان ، حيث كان يجلس فيه تاج الدين ، وقد بدا في عينيه بريق الأمل السعيد ، وتجلت في ملامح وجهه فرحة السعادة . وكان كل من يدقق في نظرته يدرك بسهولة أنه لا يكاد يرفع بصره عن ناحية بعينها في ذلك المجلس ، فإذا ما تبع بصره إلى تلك الناحية رأى هنالك ’’ ممو ‘‘ وقد جلس جلسة تدل على أنه منطو على نفسه انطواء تاما ،فهو لا يكاد يشعر بشيء مما حوله . ونظرة في عينيه الذابلتين ، وفي ملامح وجهه الذي أماله وأسنده على ظهر كفه في إطراقة طويلة – تدل على أن شيئا من سحر ذلك الجو وجمال تلك الأوتار والألحان لا يلامس نفسه ، اللهم إلا لمسة عابرة غير مبالية ، كأنما تقول له : ’’ لا أعرفك … ولست من أجلك ..‘‘
و بينما الناس في تلك الأثناء إذ سكت كل شيء .. وهب الناس جميعهم قياما .. فقد دخل الأمير في تلك الساعة . وقبل أن يصل إلى الصدر الذي كان يجلس تاج الدين في بعض مقاعده نهض هذا من مكانه مسرعا فقبل يده . فأخذ الأمير بيمينه ومضى به فأجلسه إلى جانبه بعد أن أشار إلى الحشد الكبير بتحية باسمة .
ولم يكن يخفى على الأمير أن بين تاج الدين وممو ودا شديدا ومحبة صادقة ، فأخذ يجيل النظر في هدوء باحثا عنه إلى أن عثرت عيناه عليه ، ورآه ساهما مطرقا . فأدرك أنه ربما أوحشه أن يكون بعيدا عن صديقه في هذا الحفل الذي يقام من أجله ، فاستدعاه إليه ثم قال :
’’ أنت صديق تاج الدين وصاحب وده . وليس ثم أقرب منك إليه وأليق بأن يكون ’’ حفيظه ‘‘* منذ الليلة إلى آخر أيام عرسه . فتعال واجلس إلى جانبه هنا .‘‘
فانحنى ممو للأمير قائلا :’’ أمر مولاي .‘‘ ثم تراجع وجلس إلى جانب تاج الدين .
وعاد الطرب والغناء ، وعادت الكؤوس تدور . وكانت ليلة رائعة أضفت على كل الحاضرين سعادة وأنسا . وامتدت تلك الليلة السعادة امتداد الليل ، حيث كانت نهايتها أول أساس في بناء عرس تاج الدين . وكان ذلك الأساس هو عقد نكاحه على الأميرة ’’ ستي ‘‘ .

* حفيظ العريس هو ذاك الذي مكانه بجانبه ويمشي ورائه كأنما هو حارسه. وهي عادة من عادات الأكراد في أعراسهم . ويختار الحفيظ من أخلص أصحاب العريس وأقربهم إليه .

العرس 

ونعود الآن مرة أخرى إلى رحاب قصر الأمير بعد أن مضت مدة على نكاح تاج الدين ، وانهمك خلالها في إعداد العدة وتهيئة اسباب العرس . وقد غصت ردهة الطابق العلوي منه بعشرات الوصيفات اللواتي أخذن في تهيئة شتى وسائل الزينة والتجميل للأميرة العروس وأختها ، وليضفين على فتنتها روح الأناقة ، ويزدن في سحرها روعة الصنعة .
وأقبلن إلى العروس يسرحن النظر أولا في شعرها … شعر كستناوي في نعومة الحرير .. قد تموج من سائر أطرافه في غزارة منسابا إلى ما تحت المنكبين في بهاء وفتنة … وتمايلت من أعلاه خصل ملتوية فوق الجبين في دلال ولطف ، بينما استدار سائره أمام الصدغين وحول الوجه في تجاعيد رائعة ذات سحر . تصميم إلهي بديع لا يستطيع أي مخلوق أن يلمس في روعته نقصا ليكمله ، أو خطأ ليعدل فيه .
وانتقلت أبصارهن إلى العينين … عينين واسعتين تنظران بسهام الفتك ، تحت حاجبين ينطلق منهما مثل ما ينطلق من كبد القوس وأهداب ناعسة سوداء في سواد الليل … تسترخي على تلك المحاجر استرخاء شاعريا يفعل في الألباب ما تفعله الخمر . هذه الفتنة من الكحل الإلهي العجيب ، وهذا البريق الساحر المنبعث من هذه النظرات ، أي إثمد أو صبغ في الدنيا له أن يغير من ذلك ويبدل ؟!
ثم استدارت أنظارهن إلى القوام .. قوام مياد أفرغ في أروع قالب من التناسق والجمال ، وصمم في أدق تكوين إلهي معجز . فجاء منسجما من كل أجزائه وأطرافه ، يبعث بعضه الفتنة في بعض . فأي يد من أيدي التقليد والصنعة تزعم أنها ستزيد فيه روعة وإبداعا ؟
ووقفت الوصيفات من حول ستي في جمود وذهول يمجدن خالق هذا الجمال ، وقد اعترفت حيرتهن بأن الجمال الذي صورته يد الخالق لا سبيل ليد المخلوق في تغييره .
ثم رأين أن ليس لهن إلا أن يتوجن ذلك الجمال بإكليل رصع بالدر وأثمن أنواع الماس . يضعنه فوق جبينها المشرق وبين أمواج ذلك الشعر الحريري الرجراج . أما قوامها فقد تركن فتنته تشع من خلف ثوب من القطيفة البيضاء ، سرت فيه نقوش رائعة من خيوط الذهب الخالص ، وقد التف من الاعلى على جسمها التفافا يبعث السحر . بينما اتسع من الأدنى اتساعا كبيرا ، وترك له ذيل طويل يتهادى من حولها على الأرض . أما نحرها وما دون ذلك إلى الصدر فقد ترك إشراقه باديا ليتألق فيه عقد من الماس تدلت من سائر أطرافه على النحر حبات اللؤلؤ النادر .
وانصرفن بعد ذلك إلى ’’ زين ‘‘ ولكنها كانت أغنى من أختها عن التجميل المصطنع لقد كانت هي وحدها الآية التي دلت على أن للإبداع الإلهي أن يسو على فتنة ’’ ستي ‘‘ وجمالها فلم يكن الشأن في تزيينها يحتاج أكثر إلى مما قمن به بالنسبة لأختها ..
ولم تمض سوى مدة قصيرة حتى انبعث من قصر الأمير موكب يتهادى من وراء صفين من الخيول المزينة ، موكب يزدان بأفخم مظاهرالجمال . عشرات من الوصيفات والجواري يتمايلن في أبدع أنواع الزينة والحلي ، تتوسطن غادتين لو أن الشمس الساطعة في السماء انقلبت إلى انثى من بنات حواء لما استطاعت أن تكون في سحرها وجمالها ! من ورائهن عشرات الغلمان الذين أفرغت عليهم كأس الزينة بأنواعها ، يحملون أطباقا متألقة ملئت بالحلوى والنفائس والتحف .
وبدأ الموكب الرائع يعوم في يمٍّ متلاطم من الخلائق ، الذين تدفقت بهم الجزيرة من شتى نواحيها ، يتطلعون في ذهول إلى تينك الغادتين اللتين طالما سمعوا بهما ، وحرمهم القصر رؤيتهما . ومضى الموكب يمخر العباب … ويتهادى في وسطه ، والأعين كلها شاخصة في مشرق تلك الفتنتين إلى أن رسا أمام قصر تاج الدين … وهو قصر شيده على أبدع ما تخيله من طرز . رفع أعمدته وفرش أرضه وجدرانه بأفخر أنواع المرمر المتألق ، وجعل أبوابه ونوافذه من الصندل والأبنوس النادر ، ثم حلىَّ أطرافه وسقفه بنقوش دقيقة من ماءالذهب الخالص .
وما إن دخلت العروس إلى الردهة الخارجية للقصر حتى رفعت فوق عرش فخم من الأبينوس كان ينتظرها هناك .
وفي مثل طرفة العين اعتلى ذلك العرش فوق عشرات الأيدي والأكتاف . يتهادى وسط ذلك الخضم من الناس ، وبين صخب ممتزج من الزغاريد وأصوات الدفوف والمعازف وعبارات الدهشة والإعجاب ، حيث صدِّر أخيرا في بهو الطبقة العليا من القصر ، بينما كانت الجموع الحاشدة من المدعوين يجلسون في جناح آخر منه ، تطوف عليهم كؤوس الشراب ، وقعد إلى جانبه ’’ ممو ‘‘ وقد بدا في مثل أناقته ومظهره . وراحت جزيرة بوطان كلها تسهر في ثمل ومرح . وتتمايل في أحضان اللهو والطرب . وتوارت من وجه الدهر كآبته ، وأخذ يطل على الناس بخالص من مظهر الصفو والسعادة . كؤوس الراح تدور ، ورنات العيدان وصوت الغناء والدفوف يشق جو السماء ، ومئات الجواري والشباب يرقصون رقصات جماعية فتانة تتهادى معها القلوب والمشاعر . وظهرت في تلك الأثناء أطباق فضية فوق أكف رجال من حشم القصر قد فاض كل منها بأكوام من الذهب والفضة وكرائم التحف ونفائسها ، حيث أخذوا ينثرون تلك الأكوام من علو فوق تلك الجموع المحتشدة في سائر جهات القصر و أنحائه ، فتتفرق فيما بينهم في بريق كأنها النجوم تتهاوى عليهم في غزارة من السماء . وعم كرم الأميرجميع الناس . وأدخل الفرحة والبهجة إلى جميع القلوب . فكم من فقير في تلك الليلة استغنى ، وكم من عديم أيسر ، ولك تزل هذه الأفراح على هذا المنوال قائمة لا تهدأ إلى سبع ليال كانت كلها مجمعا للصفو والمرح ، ومقدمة بين يدي ساعة العمر … ساعة الوصل بين ستي وتاج الدين .
وفي ساعة السحر من الليلة السابعة ، والأفراح دائرة وقلوب الناس مستطيرة – كان قد بلغ الشوق بالعروسين أشده ، واستعرت نار الشوق في ضلوعهما ، وامتزج وهجه بندى ذلك السحر ونسيمه ، وأخذ كل مظاهر الأنس والبهجة من حولهما يلمس فؤاديهما لمسة كاوية . يلتف بها النسيم ، ويقام من حولها الخشيم ، لا بد أن تتوهج وتتلف …
هنالك … وفي لحظة من تلك للحظات المتموجة في نسمات ذلك السحر – انفتح بابا تلقاء الأريكة التي كان يجلس عليها تاج الدين ظهرت ورائه مقصورة مزينة تميس في فتنة حالمة … وقد فاح من أركانها أريج العطر ، وأقيم في سائر أطرافها شموع تشع بأضواء مختلفة الشكل تنتشر في جوها نورا ناعسا ذا جمال وسحر ، كما نظمت في بعض جهاتها أطباق صغيرة مذهبة شُكل فيها ألوان الحلوى ووسائل التسلية . ثم ظهرت في أيدي جمع من ذوي العروسين شمعة باسقة ، في طول القامة . وقد وشيت أطرافها بأغصان من ماء الذهب ، وتوج أعلاها بإكليل من الزجاج المنقوش يشع من ورائه لسان من النور المتوهج .. حيث أقاموها في وسط تلك المقصورة تلقاء نظر تاج الدين ، لتقول له بلسان حالها :
’’ أيها العاشق الذي أفقده الشوق صبره وقراره .. يبدو أنك مثلي فما أقاسيه من ألم واحتراق ..
إذن فقم من مكانك هذا الذي سئمته إلى حيث تنتظرك عروسك …
قم فقد آن أن تذوق بعد هذا الذي عانيته – نعيم الوصال …
قم فإن شمعتك مثلك في الإنتظار .. تقاسي مثل ما تقاسيه جوانحك …
من نار الإصطبار …
حسبك مثلي ذوبا واحتراقا … وكفاك مثلي دموعا وتسكابا …
إن ذلك النور الذي ضاع ورائه قلبك .. هو ذا أمامك اليوم … فلترتم في أذياله ، كما تفعل الفراشة الملتاعة .. إذ تنثر روحها على أذيال اللهب .
أيها الساعي … طالما أتعبت قدميك ابتغاء الوصول إلى هذا المطاف ..
أيها السالك .. كم أظمأت كبدك قصدا إلى الطواف …
لقد قدر الله لك كل ذلك في سهولة … وحققه من أجلك في يسر …
ها هي كعبتك .. قد سعت نحوك . وها هو ذا مطافك قد تدانى إليك …
أيها العاشق السعيد .. قم لتطوف وتلتزم .. وتقبل وتستلم …
أيها العاشق الظمآن .. قم ، فالكأس مترعة .. وخمرتك في الإنتظار … ‘‘ .
وأدرك تاج الدين من هذه الإشارة وملابساتها أن قد حانت ساعة الوصل ولاح فجره .. فنهض من مكانه في سكينة وهدوء ، وسار نحو المقصورة التي فتح بابها في انتظاره ، وإلى جانبه ممو صديق سروره وأحزانه ، يده في يده وقلبه مع قلبه ، وقد اشتمل على سيف في جنبه ، وهو شأن ’’ حفيظ ‘‘ العروس في العادة . وعند الباب وقف ممو منحازا ليودع خليله ويشير إليه بالدخول ، وكانت لحظات … توارى من بعدها تاج الدين وراء الباب الذي ما لبث أن أغلق ، بينما ظل صاحبه واقفا في مكانه ذلك كأنه حاجب أمين .
ودخل تاج الدين إلى المقصورة ، ليجد عروسه جالسة من وراء تلك الشمعة التي حدثته بدموعها حديث الحب والوصال .. حيث تصافحت عيناهما في سكون حالم وتعانق قلباهما في ذهول طويل ، وتبدلت نار ضلوعهما شهدا وخمرا . وباركت لهما تلك الشموع التي تحترق كؤوسا مترعة من الرحيق .. وشهدت وحدها أجمل لحظات الدنيا لدى الأحبة …
وظل العروسان ثلاثة أيام في انشغال عن الدنيا وما فيها ، يرقدان في مهد الأحلام ، ويستيقظان على الأحلام ، غذاؤهما شهد الوصال ، وشرابهما كوثر الشفاه

أما ممو فإنه لم يشأ – حتى بعد أن انفض الجمع ، وانصرف الجميع – أن يبارح مكنه من قصر صديقه ، إذ كان سعيدا بأن يتولاها لصديقه المحبوب ، تقضي – إذا أريد أن تكون في أسمى درجات الإخلاص – بأن يظل مكانه كأي حاجب مخلص إلى أن يخرج العروس في اليوم الثاني أو الذي يليه ، ليتلقاه ويكون أول من يهنئه من أصحابه
وهكذا اتخذ ممو مكانه في ناحية من فناء صرح تاج الدين الذي كان عبارة عن حديقة غناء تحيط به من سائر جهاته وحملته دواعي إخلاصه على أن يلازم المكان طوال تلك الأيام الثلاثة ، فلم يكن يبارحه إلا بعد منتصف الليل ، أو إلى شأن ضروري له ، ثم لا يلبث أن يعود مسرعا إلى مكانه في انتظار خروج صديقه ليهنئه بحبه الذي سعد به .
والحق أن شعور ممو في تلك الفترة لا سيما بقية الليلة الأولى عندما انفضت حشود الناس ، وطوى بساط ذلك الأنس والصخب ، ولم يبق سواه واقفا عند ذلك القصر وسط سكون الليل – كان شعورا ثائرا ألهب شوق فؤاده ، وأحاطه بمعنى الوحشة والغربة ، وأيقظ آلامه التي بين ضلوعه، وأثار حبه العنيف الذي كان من غير شك أشد من حب تاج الدين . فإذا علمت أيضا بأنه كان قد لمح مليكة قلبه في تلك الليلة والليالي التي قبلها ولمحته أكثر من مرة ، ورأتها عيناه وهي غارقة إلى جانب أختها في أبهى زينة وحلي – أدركت أن شعوره إذ ذاك جديرا بأن يحدث أثرا جبارا في نفسه ، ومن بعيد أن يتحمله مهما آتاه الله وأمده به من جلد وصبر .
غير أن بردا من الآمال المنعشة كانت تسري إذ ذاك في مشاعره ، فتخفف مقدارا من الآلام والثورة في نفسه وتجعل فكره ينشغل بنشوتها عن الإنتباه إلى تلك اللواعج الشديدة .
فلقد كان لا يفتأ – وهو يجوب كالحارس في أطراف القصر وبين حدائقه – يفكر في الك الملاطفة التي أبداها الأمير نحوه تلك الليلة والليالي التي قبلها ، وقد أخذ يتراءى له من ذلك أكثر من دليل على أن آماله قد راحت تزدهر .
إذ هل يمكن أن يعتبر شيء من ذلك التقدير الذي أبداه لما بينه وبين تاج الدين من علاقة الود والخلة ، أو اختياره له خاصة أن يكون قرينه وحفيظه إلى جانبه في عرسه ، أو تلك الملامح الخاصة المفاجئة التي ظهرت في عنايته وعطفه عندما امره بأن يقعد إلى جانب تاج الدين ويتتزين بمثل زيه وحلته ، هل يمكن أن يكون شيء من ذلك إلا أكبر برهان قاطع على أنه لن يمانع أبدا من أن يسعد هو الآخر ب’’ زين ‘‘ وعلى أن يتزوجه بها ، ويقيم لهما مثل هذا الحفل الرائع عند أول إشارة أو رجاء ؟!….
بل من يدري ؟ فقد يكون الأمير لاحظ طرفا من هذا الحب المتمرد في فؤاده وأدركته رقة ورحمة لحرمانه من هذا الحفل البهيج الذي ينفرد فيه صديقه بالسعادة والهناء ، فأراد أن يشعره بالأمل ، ويدخل إلى قلبه البشرى ، فجعل من تصرفه هذا ألطف إشارة إلى ذلك .
وأخذت هذه الآمال الجميلة تجعله يشرع في تصوير حياة سعادته وبناء أحلام حبه . وراح يفكر كيف أنه سيحاول تشييد صرح جميل كصرح صديقه ، وسيجعله يزدان بأبهى أثاث ويحيطه بفتنة خضراء كهذه الحديقة . بل لقد حدثته نفسه بأنه لا بد من أن يشرع في التفكير لتدبير كل هذا من الآن فما أضيق الوقت إذا تقدم إلى الأمير بعد أيام لخطبة حبيبة فؤاده ، وعاجله الأمير في كل شيء كما عاجل تاج الدين ، وما أشد على نفسه الصبر بعد ذلك في انتظار تهييء الجهاز وتدبير الأسباب .
والخلاصة أن حالة ممو النفسية في تلك الأيام الثلاثة التي كانت أول عهد فراقه عن تاج الدين ، والتي قطعها منفردا في فناء قصره ينتظر خروجه ورؤيته – كانت أشبه ما تكون بقوس قزح من ألوان مختلفة من المشاعر والأحاسيس ، لا يمكن أن يسمو إلى تصوريها أي بيان . فلقد امتزج الحب القاسي العنيف بأد لهيب من الشوق وخالطهما الأمل المزدهر في أجمل صوره وأصدق إشراقه ، ثم انبثت كل ذلك مجتما في سائر مشاعره ، وراح يخلق له من بين ضرام الواجد أحلاما سعيدة ، ونشوة عطرة ، وابتهاجا بفرحة صديقه ووصوله إلى مبتغاه .

وفي صبيحة اليوم الثالث خرج تاج الدين … وكان أول ما دعاه إلى الخروج هو تذكره لممو . فلقد طالت غيبته عنه ، واشتاق إلى أن يراه ويطمأن على حالته مع قلبه الجريح .
خرج من القصر .. وأخذ يسير في الحديقة متجها نحو بابها الخارجي قاصدا دار ممو دون أن يعلم أنه لا يزال واقفا هناك ، ولم ينتبه إلى وجوده إلا بعد أن لمحه على البعد وأسرع يجري إليه ..
وهناك امتزج الصديقان في عناق طويل ، ونظر تاج الدين إلى وجه صديقه ، فأدرك أن هناك آلاما ولواعج في نفسه ، قد حاول طيها وجمعها في زاوية صغيرة من قلبه لكي يتسع للابتهاج التام بفرحة أخيه … فتنحى به جانبا من الحديقة وأخذ بكفه قائلا :
’’ أقسم لك يا صديقي أنني لو وجدت أي سبيل لتقديم سعادتك على سعادتي ولو ظهر لي أي طريق يمكنني أن أفتدي فيها هنائي وحبي بلحظة واحدة من حبك وسعادتك لما توانيت عن ذلك . ولكنك تعلم أن هذه هي السبيل الوحيدة لوصول كلينا إلى آمالنا التي علق القضاء قلبينا بها . وثق أنني لن أستسيغ طعم سعادتي التي تهنئني بها إلا بعد أن يسعدني التوفيق في إيصالك إلى مناك وآمال حبك .‘‘
وهكذا ظل الصديقان برهة من الوقت يتبادلان التهنئة والمصابرة . هذا يهنئه من كل قلبه ويشعره بفرحة فؤاده من أجل سعادته ، وذاك يواسيه ويحمله على الصبر ، ويبشره بقرب وصاله هوأيضا .

الصديق …؟؟؟؟ ألا ما أثمن الصديق الذي يتسع قلبه المحروم للابتهاج بسعادتك ، ويقيم وراء صدره المكلوم عرسا يوم فرحك .
هذا الصديق الذي منحتك الدنيا مثله فإفده بسائر مظاهرها ومن فيها ، فإنما هو سراج من أجلك في الظلماء ، وهو أمل لقلبك عند اليأس .

الفتنة

الكون كله منذ فجر الحياة مسرح للصور المتضاد والمظاهر المتناقضة . فهذا الليل والنهار ، والنور والظلام ، هذه الشمس المتوهجة والظلال الوارفة ، هذا الهجر والوصال ، والمآتم والأعراس ، هذه المآسي والأفراح ، وهذا البؤس والنعيم ، هذه الورود الناعمة بين أشواكها الدامية – كل ذلك نماذج لمشهد هذا الكون المتناقض أبدعه الله كذلك ليوجد في كل من الخير والشر معناه ، وليستبين كل منهما بالآخر ويتميز كل عنصر بنقيضه ثم لكي تشيع في الكون روح الحركة والكفاح ولترتبط هذة الخلائق بنظام السعي والتعاون .
ويأبى هذا السنن في الكون إلا أن يجري في قصتنا أيضا ، فيجمع فيها عنصري الخير والشر ويمزج فرحة السعادة بدموع البؤس … وعنصر الشر في هذه القصة هو حاجب خاص لديوان الأمير ، أما اسمه ’’ بكر ‘‘ وأما اسم أبيه فلم يكن يعرف من هو حتى يعرف اسمه . كانت لهذا الحاجب نفس تنطوي على أشد ألوان الخبث والمكر . وكأنما غذيت روحه بحب الفتنة فهو يتعشق الولوج فيها حيثما لاح له بابها . ولم يكن في مظهره قصيرا وقميئا فقط ، بل كان إلى ذلك أجرد الشكل باهت السحنة ذا عينيت تشعان بمزيج من الحقد والكراهية والحسد .
وكثيرا ما كان يقترح تاج الدين للأمير أن لو استغنى عن هذا الماكر الخبيث واستبدل به آخر يكون أليق بالقصر ، وأشرف منه خلقا وأصلا . وكان يقول له عنه فيما يقول :
’’ … إن الحاجب يا مولاي وإن كان لا يرجى منهم فوق ما يرجى من أن الكلاب فيها طبيعة الإخلاص والوفاء أما هذا فإنه لا يعنيه شيء سمى أن يكون وغدا خبيثا …‘‘
فكان الأمير يهز رأسه لكلامه ، ثم يبتسم إليه قائلا :
’’ إن حياتنا يا تاج الدين تضطرنا إلى سفيه من هذا النوع … فإن لنا خارج هذا القصر شؤونا ومصالح … ولنا أيضا هناك مشكلات ذات عقد … قد نحتاج إلى متاعب كثيرة في حلها لو لم نحو من حولنا سفهاء من هذا القبيل . وإن كل هؤلاء الحجاب والحراس الذين تراهم من حول قصور الأمراء والحكام ، لا يراد منهم أن يكونوا حجابا بمقدار ما يراد منهم أن يكونوا أداة بارعة لتسيير شؤونهم وحل معضلاتهم . أما أنه غير ذي نسب وأصل ، فلن يضير شيء من ذلك في مصالحنا ما دامت تقضى ، وأما أنه ذو فتنة و خبث فإن شيئا من خبثه وفتنته لن يتطاول إلينا بمكروه أو ضرر .‘‘
وهكذا أصر الأمير على استبقائه ، ولم يستطع تاج الدين أن يقنعه بوجود ما يدعو إلى طرده والاستبدال به .
ومضت الأيام لك يَخْفَ فيها على بكر أن تاج الدين يكنُّ له كراهية وبغضا ، فطوى في قرارة نفسه أمرا ، وراح يضع بين عينيه خيوطا لفتنة يثيرها على رأس تاج الدين … ومضى يتحين لذلك الفرص السانحة ، إلى أن كانت ذات أمسية ….
كان الأمير إذ ذاك جالسا على انفراد في جانب من حديقة قصره ، وليس من أحد حوله إلا حاجبه بكر الذي كان منهمكا على مقربة منه في تقليم بعض الأغصان اليابسة من أشجار الحديقة وتنسيقها .
ولاحت لبكر فرصة سانحة عندما سأله الأمير : ’’ أجاء تاج الدين في ذلك اليوم إلى القصر أم لا ؟ ‘‘ … فقد أجابه قائلا :
’’ إن تاج الدين يا مولاي لم يمر بالقصر منذ أربعة أيام .‘‘
وسكت هنيهة ، ثم عاد فقال :
’’ كأني أرى يا مولاي أن تاج الدين لم يعد يفرغ للتردد على الديوان كسابق عهده ‘‘ !
فسأله الأمير :
’’ وما الذي أصبح يشغله ؟ ‘‘
’’ لا أدري ، قد يكون مجرد أنه لم يجد داعيا لأن يتردد كثيرا …‘‘ ثم انتهز فرصة تفكير بدت ملامحه على وجه الأمير ودنا إليه قائلا :
’’ الواقع يا مولاي أنه لم يكن يمكن أحد من الناس أن يصدق بأن الأميرة ستي يمكن أن تقدم رخيصة بهذا الشكل لمثل تاج الدين في حين أن جميع أمراء كردستان وسلاطينها كانوا يتمنون هذا الشرف لقاء جميع ما تمتد أيديهم من مجد ومال ‘‘.
فأجابه الأمير وقد بدا عليه التقزز من كلامه:
’’ ومن يكون هؤلاء الذين يحسبون ويظنون ..؟ بل من يكون أولئك الأمراء والسلاطين أمام كل من تاج الدين وشقيقيه ..؟ إن كل واحد من هؤلاء الأشقاء الأبطال يساوي عندنا في يوم واحد من أيام الحرب الكريهة جميع ذلك الركام من الأموال والسلاطين ‘‘.
فلما سمع بكر هذه اللهجة من الأمير أيقن أن ذلك الإسلوب لن يفيده فيما يريد . فغير مجرى الحديث وقال وهو يتشاغل بما بين يديه :
’’ لا شك أنه يجمل بالسادة أن يشجعوا غلكمانهم على المزيد من الاستقامة والخدمة عن طريق إكرامهم وإشراكهم في مجالس صفوهم وأنسهم ، ولكن بشرط أن لا ينسيهم الأنس حقيقتهم ولا يسكرهم عن أداء واجباتهم ، وأن تظل انحناآتهم للأوامر في ساعات الصفو والمرح ، موجودة بنفسها عند الشدائد وفي ساعة الكر والفر .
غير أنني أخشى يا مولاي أن يكون بعض هذا التفضل منصرفا إلى غير أهله فتكون نتيجته الكفران والطغيان . إن البخيل يا مولاي لا تليق بين يديه النعمة والثراء ، والحقير لا يلائمه …‘‘
وهنا قاطعه الأمير بحدة شديدة قائلا :
’’ صه أيها الاقذر ، فما الحقير غيرك . إنني أعلم من هو تاج الدين في حبه وإخلاصه ، وأعلم ما يجب عليَّ فعله ، فلا تتماد فيما ليس من شأنك ‘‘ …
فتصاغر بكر حول نفسه ، وتمتم قائلا :
’’ لقد كنت أظن فيه هذا الإخلاص …لولا أني اطلعت منه على أمر لعل مولاي الأمير لم يطلع عليه ..‘‘
فقال له الأمير في اشمئزاز :
’’ وما هو هذا الذي اطلعت عليه ؟ ‘‘
– ’’ لقد أصبح يا مولاي منذ أوليتموه شرف هذا القرب يستقل بالتصرف في كثير من شؤون القصر الخاصة … ولقد كان أول ما أذهلني من تصرفاته في ذلك هو أن راح يقدم الأميرة ’’ زين ‘‘ إلى صديقه ممو ، ويعده بتزويجها منه …!‘‘
وما إن سمع الأمير هذا الكلام حتى أخ الذهول منه كل مأخذ ، وهب من مكانه يدير عينيه فيما حوله من الفضاء قائلا :
’’ ماذا ؟ تاج الدين … يتصرف في مثل هذا الشأن دون أن أعلم ..؟ تاج الدين يقوم بتزويج شقيقتي لمن يريد . دون أن يستشيرني على الأقل ؟ أم يبدو والله قد أسرفت في العطف عليه حتى لم تبق في نفسه أية رهبة مني ولا خوف ‘‘.
فدنا منه بكر قائلا :
’’ أليس يدري مولاي من هو تاج الدين ..؟ إنه ذلك المعتز بنفسه ، المغرور برأسه حتى قبل أن يحظى من مولاي بهذا العطف … فكيف وقد نُفح غروره اليوم ؟ وإن أشد ما أخشاه والله يا مولاي أن يكون هذا الرجل يهدف من وراء استبداده الطائش إلى غرس نفوذه ونفوذ ذويه في رحاب القصر عن طريق المناسبة والمصاهرة ، ليعلم بعد ذلك الإمارة لنفسه ، ويسلسلها من لدن آبائه وأجداده ..‘‘
وعاد الأمير فجلس في مكانه وهو يقول :
’’ لقد كان لي عزم والله على أن أجعل زينا من نصيب ممو ، وأن أقيم أفراحهما عما قريب . ولكن ها أنذا أقسم اليوم بفخر أجدادي فوق هذه الأرض ألا أدع ذلك يكون ، ولو جرت في سبيله سيول من الدماء حولي . فليتقدم إليّ إن شاء كل من ضجر من حمل رأسه ليتوسط أو يستعمل نفوذه في ذلك .‘‘
وهكذا أقام الأمير ، بفتنة حاجبه الخبيث ، أصلب حاجز بينه وبين كل من كانوا يريدون أن يتوسطوا إليه في تزويج ’’ زين ‘‘ لصديق تاج الدين ، وهدم آخر ساف من الأمل في إقامة فرح هذين الحبيبين ، ولكن دون أن يعلم ممو أو تاج الدين أو أي واحد من أصدقائهما هذه الوشاية التي تسببت في ذلك .. وهذا الدور الخبيث الذي لعبه بكر للوصول بالأمير إلى تلك القسوة في الموضوع . غاية الأمر أنه كان يصد إليه كل من كان يفاتحه في هذا الشأن ، أو يحاول الرجاء أو التوسل إليه لتزويج ممو من شقيقته زين وكان آخر ما قاله في مجلس ضم تاج الدين وشقيقيه وجمعا كبيرا من أصدقائهم ، يحاولون فيه استرضاءه بشتى الوسائل ، هو أن قال :
’’ … تأكدوا جميعا أنه قد يمكن أن تظل زين طوال حياتها عزبة في القصر ، ولكن لا يمكن أبدا أن أجعلها يوما ما من نصيب ممو ولا داعي أيضا إلى أن تعرفوا سببا لذلك أكثر من أنني هكذا أردت . ولا داعي أيضا إلى أن تعيدوا بعد اليوم إلى سمعي هذا الحديث ، إلا إذا رأيتم داعيا إلى إثارة شر أنتم اليوم في غنى عنه ..‘‘
ولقد كاد تاج الدين أن يعلن للأمير إذ ذاك أنهم ليسوا في غنى عن هذا الشر ما دام هو وحده الثمن لما تقدموا إليه برجاء تحقيقه ، لولا أنه كان ذا أمل في تطورات المستقبل التي قد تسهل الموضوع ، ولولا أنه كان يرجو استرضاء الأمير يوما ما عن طريق السياسة واللين عوضا عن الثورة والشدة .

في محراب الأحزان

الأيام تمر على ستي وتاج الدين صافية مشرقة ، والدهر يبتسم لهما بألوان من الصفو والسرور ، ويمد من حولهما حياتهما الجديدة ظلالا وارفة من النعيم ، ويقدم كؤوسا مترعة من السعادة التي أنستهما أيام اللوعة والفراق .
والحبيبان الآخران لا يزالان في لظى من نار صبرهما وحرمانهما . يقضي كل منهما الليالي والأيام في صومعة انفراده لا يبصر من حوله أي مؤنس ولا ينتهي إلى سمعه صوت أي راحم .
والهموم إذا لم تجد صاحبا يخفف من آلامها ، والزفرات إن لم تصادف مواسيا يبرد من حرها ، فأنى لصاحب هذه الهموم والزفرات أن يتحمل ؟ وأنى للتجمل والهدوء أن يجد وسيلة إلى القلب ؟ لا بد للأفراح لكي تصبح مشرقة ، ولا بد للأحزان لكي تكون متحملة من صاحب وشريك فيهما . وإلا فما أحرى بالهموم التي تحيط بها الوحشة والأنفراد أن تصبح سببا للهياج والجنون .
كان تاج الدين فيما مضى أليف ممو لدى سروره وأحزانه فكان خير طبيب ومواس لقلبه كلما هاج به الشوق . وكانت ستي أيضا هي وحدها مأوى الآلام والأفراح لأختها زين ، فمدامعها لا تنسكب إلا بين أحضانها ، وسرورها لا يتم إلا إلى جانبها .
أما اليوم فقد مضى هذان الاثنان إلى سبيل سعادتهما ، وانشغل كل منهما بالفرحة بالآخر … وبقي ممو لوحدته الموحشة ، يشكو فلا يجد من حوله من يتوجع إله ، ويتأوه فلا يرى أمامه من يواسيه . كما بقيت زين أيضا منطوية على آلامها دون أن يدرك أحد ما بها ، فهي دائما مختلية في غرفتها ، تسكب مدامعها بين ظلمات الوحشة والنفراد ، تتأوه آنا من وحشتها في ذلك القصر ، وتبكي آنا آخر حظها التعس المشؤوم .
ومضى على زين من عرس أختها أربعون يوما … وهي تقاسي آلاما ولواعج تحرق ضلوعها ، ولا تكشف إلى أحد من المخلوقات سرها .
أربعون يوما … كانت زين في خلالها شاردة اللب ، قد اتخذت من غرفتها محربا للبكاء والزفرات ، طعامها كله غصه ، وشرابها مزيج بالدموع .
أربعون يوما … بدت من ورائها تلك الغادة التي طالما سحر جمالها وأسكر ، وقد ذبل منها ذلك الجمال وتهدل ، وعاد كأنه البدر إذ يسري بعد تألقه نحو الرقة والذوبان .
ولم يعد يخفي على إحدى فتيات القصر وجواريه ما انتهى إليه حالها . فكن يعجبن من أمرها ، ويرثين لشأنها . ولم تكن تشك إحداهن في أنها تقاسي هذه الآلام لفراق أختها التي تحبها حبا شديدا .. فكانت كثيرا ما تنتهز إحداهن المناسبات لتخفف عنها وطأة هذه الذكرى لشقيقتها ، ولكن دون أي جدوى .
وفي ذات يوم تجمعن كلهن ، وذهبن إليها في غرفتها التي تظل مختلية فيها ، وجلسن من حولها يواسينها ويقلن لها في رقة وعطف :
’’ كم لك أيتها الأميرة الصغيرة تسكبين هذه الدموع في غزارة وألم ؟! وإلى متى تعيشين مع هذه الأحزان وتتوسدين هذا الهم ؟!
إن أختك وإن تكن فارقتك غير أنها انطلقت سعيدة مبتهجة بشريك حياتها . فبأي سبب تتقلب هي هناك في سعادتها وأنسها ، وأنت ههنا تجلسين بين الدموع والأحزان ؟
حسبك يا مولاتي … حسبك هذا الجزع الذي لا داعي إليه . قومي .. فاقتلعي من قلبك هذه الهموم والآلام ، وأزيحي عن مفاتنك قتام هذه الأحزان . جففي لحظيك من هذه الدموع ليعود إليهما سحرهما ، وأزيلي عن وجهك ضباب هذه الوحشة ليرجع إليه إشراقه … اغسلي عن هذا القدح الرقراق من آثار الدموع ليمتلىء كما كان بياوقت الرحيق ، فقد آن أن تعود السكرة إلى الرؤوس وتطوف النشوة بالقلوب . دعي هذه الغرفة التي جعلت منها بزفراتك جحيما ، ولينبعث كم هذه القوام رشاقته وسط أبهاء القصر وقيعانة فقد طالت عليه فترة الكمود . مزقي عن الورود حجاب هذا الإنقباض ليتجلى بهاؤها . دعي هذه الجدائل تنفرد متهادية على كتفيك في دلال ، وائذني للسوالف من حول صدغيك والخصل الملتوية من فوق جبينك أن تهتز بهما نسمات الإغراء . أعيدي إلى رونق هذا النحر عقده ، وليتدل على الجانبين من ليل هذا الشعر قرطاه .
هذه الدنيا وزينتها … هذه الطبيعة وبهجتها .. هذه الأيام من العمر التي تطل عليك بثغر ملؤه البهجة والسعادة .. لا تدعي كل ذلك يفوتك وأنت مطرقة.. لا تسكري نفسك عنها بكؤوس الدمع والأحزان .
الحياة جميلة يا مولاتي ، وأنت أجمل منها . والدنيا من حولك مشرقة ، وإشراقك أتم منها . فانهضي … وافرحي .. وابتسمي .. ليتم في الحياة الجمال .. ويتكامل للدنيا الإشراق ..‘‘
وهنا سكتت الفتيات وقطعن حديثهن . فقد أخذ يتغلب على كلامهن نشيج صدرها ، واختلطت أصواتهن في صوت بكائها ، وراحت تجيب حديثهن بوابل من الدموع لم تسكب مثله إلى ذلك اليوم .
ولا بدع ، فالشوق نار في الفؤاد لا تزيده النصيحة إلا اتقادا ، وهو سر مستكن في الجوانح لا يفيده العتب واللوم إلا افتضاح . لا سيما إن كان هذا الناصح لا يدري سر الحزن والألم فيمن ينصحه ، فهو يلقي على سمعه كلاما بعيدا عن دنيا قلبه وآلامه ، لا ريب أن ذلك ا يزيد في نفسه إلا شعور بالغربة وإحساسا بالوحشة والآلام .
ووجمت الفتيات في حزن وأسف … وتعلقت أنظارهن بشفتي زين ينتظرن منها أية كلمةتشير بها إلى سبب كل هذه الحرقة والعذاب . ولكن عبرات عينيها ، ونشيج صدرها ، لم يكن شيء من ذلك يدع لها فرصة لأي حديث .
ثم نهضن جميعا في ندم شديد مما أقدمت عليه … وتسللن من غرفتها الواحدة تلو الأخرى في هدوء ، وقد ارتسمت على ملامحن مظاهر الدهشة والإنكسار .
وأغلق باب غرفتها بعد أن خرجت آخر واحدة منهن … فرفعت وجهها تحدق النظر فيما أخذ يحيط بها من رهبة الوحشة والانفراد ، وأخذت تتراءى من حولها أطياف تلك الفتيات ، وقد انقلب كل واحد منها إلى أشباح متجسدة من الهموم والغموم .. وأحست من قرارة قلبها المحطم أن هؤلاء هم وحدهم أصدقاؤها الذين ألفوها وألفتهم ، وخالطوا كل حبة من قلبها ونفسها . فراحت تتأمل من حولها تلك الأشباح ، وأخذت تحدثها قائلة :
’’ مرحبا بكم أيها الأصدقاء .. أيها الأصدقاء للنفوس البائسة والندامى للقلوب المكلومة .. أيها الشركاء في سرِّ ما رواء الجوانح المعذبة ، وأطياف الوسن لعيون الخواطر الحزينة … يا كوؤس الراح للحلوق المريرة ، ومظهر البهجة أمام العيون القريحة …
العشاق جميعهم قد وصلو إلى محاريب آلامهم ، والسالكون كلهم قد انتهوا إلى مباهج أنسهم وسعادتهم . وها هو ذا قلبي المهجور ساكن فيما بينكم خال من اجلكم ، لا يجوب أحد غيركم في أركانه .
لكم اليوم أن ترتعوا فيه كما تشاؤون وان تتصرفوا به كما تريدون ، وأن تتجازوا ذلك إلى كل جهة من مشاعري وطرف من جوارحي . عيناي … سأتخذ منكم شعاع رقادهما ، شفتاي … سأملأ منكم كؤوس خمرها ، أفكاري … سأجعل إليكم في أيامي السود ، وما أشد شوقي إلى الأنس بكم في ليالي الظلماء .‘‘
ثم يلوح لعينيها بين أشباح تلك الهموم خيال ’’ ستي ‘‘ وكأنها جالسة إليها ، تتواسيان وتتشاكيان كما كانتا في أيامهما السابقة ، فتتألق عيناها نحو ذلك الوهم ، وتمضي إليه لتعانقه قائلة :
’’ أختاه … يا روح زين ونور بصرها ، يا جليسة أفراحي وهمي ، وشريكة سر قلبي ، يا عيش احزان نفسي وجناح المسرة لروحي . لله هذا الدهر الذي جمع نفسينا في طبيعة واحدة ، ثم فرق بيننا في الحظ والسعادة ؟ ما أعظم شكري لله على أن آتاك الحظ الذي تريدين ، وأسعدك بالطالع الذي كنت تحلمين . فليبتسم لك الدهر ، فإن في ابتسامته عزاء لهمي . ولتسعدك الحياة ، ففي إسعادها تهوين لشقائي .
أما حظي ، فمهما اشتد سواده الذي به فلن يتجاوز القسمة التي يجب أن أرضى بها وأسكن إليها . كانت قسمتي في الأزل هذه الهموم التي تحيط من حولي ، والبؤس الذي يقيم في نفسي . ذلك هو المقدر المسطور .. صفو الحياة وأفراحها من أجلك ، وحزنها وآلامها لقلبي . لك تاج الدين الذي أعطاك الدنيا فيه أفراحها ، ولي ممو الذي قدمته إليَّ في همومها وشقائها . فللّه مني ما شاء من قبول بحكمه ورضى بقسمته .‘‘
أما الليل فكانت في معظم أوقاتها تأبى أيضا إلا أن تسهر مختلية في غرفتها . وكثيرا ما كان يحلو لها أن تجلس إلى جانب شمعة من الشموع المتقدة في أنحائها ، تتأمل احتراقها ، وقطراتها التي تجري كالدمع من جهاتها ، وسيرها نحو الذوبان والنتهاء . فتشعر في أسى ولوعة ليمة قد غدت شمعة أخرى بين هذه الشموع ، تسير مثلها نحو الاضمحلال و الانطفاء . ثم تثبت نظرها مطرقة في تلك الشمعة وتحدثها قائلة :
’’ أيتها الأخت القائمة حيالي ، المحترقة بمثل ناري . لك أن تغتبطي وتحمدي الأقدار على ما بين آلامي وآلامك من فوق مثل ما بين مشرق الشمس ومغربها . نارك إنما تعلو ظاهرا منك فقط ، وناري يتأجج لهيبها من أعماق قلبي وباطني . نارك إنما تمس منك خيط هذا اللسان ، ثم لا تتجازه ، وناري يسري لظاها وراء جميع مسالك روحي ، ويقيم لهيبها حربا في كل جوانحي وجسمي .
هو في أعلاك نور يشع من حولك بهجة وضياء . وهو في باطني دكنة تملأ ما حولي ظلمات وقتاما .
هو في لسانك سحر من البلاغة والتعبير والبيان ، وهو في جوانحي وبين ضلوعي آلام كاوية تفقدني النطق والكلام .
ثم أين أنت من أجيج ناري وزفرات نفسي إذ ترقدين منذ لمعة الفجر إلى المساء ، زفرات كاوية … ولظى مستعر .. وأجيج متقد .. لا يكاد شيء من ذلك يريح نفسي ساعة من ليل أو نهار ، ليس من فم يطفئه ، أو نسمة تخمده .‘‘
وتلمح أثناء اطراقتها في ذلك الليل فراشات تطوف حول تلك الشموع ، فتنظر إليها بعينين زائغتين بالدمع قائلة :
’’ أيها الطائر الهارب من عش الفراق ، والبلبل المولع بأزاهير اللهب ، أيها الحجة الصائبة على المدعي الكاذب ، والباذل روحه رخيصة في شجاعة وشوق .
قل لي ، ألا يدركك الملال ساعة من هذا الدوران ، ألا تشعر بتعب من هذا السعي المرتعش الدائب حول هذا المطاف ؟
ولكن أسفا .. أسفا أن يقارن المتجه نحو الموت برزانة وجأش بذاك الذي يسعى إليه في ضجر مرتعش .
كان عليك أن تعلم أن هذا الهلع في السعي مظهر للجزع المعيب ، وأن ارتعاشك الدائب طيش لا ينبغي ، وأن تعجلك للفناء قبل أن ينضج منك الجسم بشوقه إنما هو تخلص من الصبر وآلامه .
هلا قعدت تصبر مثلي ، إلى أن يذوب الجسم في بوتقة الحشا ، وتتلاشى المادة في ضرام الروح ؟ إذا لبدلت منك هذه الحقيقة الأرضية بروح القدس والخلود ، ولعادت روحا صافية في كأس شفافة من النور . وإذا أمكنك أن تعانق هذا اللهب من دون احتراق وأن تتقلب في جنباته من غير اكتواء .‘‘
وهكذا كانت تمر حياة زين … خلوات مع الأشباح والأطياف وحديث مع الخيالات والأوهام ، يطوف كل ذلك بها ، ثم يستقر في ذهنها وقلبها وكل مشاعرها شيء واحد … هو اسم ممو … هو حظها المنكوب الذي أبعدها عن أليف روحها ، وأخرجها من أفراح الدنيا ونعيمها .

آلام ممو

أما ’’ ممو ‘‘ فقد كان عديم الصبر والقرار حتى عندما كان صفيه لا يزال إلى جانبه ، يشركه في ألمه ووجده ، فكيف به اليوم ، وقد افتقد من جانبه الصديق ، وغاب عن قلبه الأمل ، ولم يبق إلا خيال ’’ زين ‘‘ يشع محياها في ذهنه من خلف ضباب اليأس الأليم القاتل ..!!
لقد كانت فترة وجيزة من الأيام … سرعان ما إختفى فيها ذلك الشاب الرائع ، المعتز بقوته وشخصه ، المعجب ببطولته وبأسه وظهر من ورائها إنسان آخر ذو ملامح ذابلة . ينظر ما حوله بعينين شاردتين ، كأن فيه عتها أو جنونا ، يهيم على وجهه بياض نهاره وسواد ليله ، متنقلا بين الآكام والتلال ، يذرع مرة شواطئ دجلة جيئة وذهابا ، ويتسلق أخرى ذرى الجبال صعودا ونزولا . لا يقر له مكان في أي جهة ، ولا يكاد يستأنس بأي انسان .
إنه ممو بعينه .. ذلك العاشق الذي صدمه اليأس في قلبه صدمة واحدة بعد أن شبت الآمال في نفسه ، وكادت تزدهر .
وهو بعينه أيضا صفي تاج الدين .. إنه اليوم يراه فلا يكاد يتبينه ، ويجلس إليه ، فلا يرفع رأسه عن إطراقته ، ولا يكلمه بغير آهاته وزفراته .
وهو بعينه ذاك الذي كان سكرتيرا في ديوان الأمير .. إنه اليوم يدخل الديوان ، ويرى الأمير أمامه ، فلا يكاد يستطيع أن يخفي نشيجه .
ولكنه مع ذلك ظل يكتم سر دائه عن كل مخلوق ، إلا صفيه تاج الدين الذي لم يعد يملك أي وسيلة في محاولة إسعاده .
أما حينما يهيج به الوجد ويضيق به الكتمان فقد كان يأخذ سمته إلى خلوات الشطآن ، أو في بعض سفوح الجبال ، حيث يبعث هناك ما شاء من زفراته وأناته ، ويسكب كل ما في عينيه من دموع ويتخذ من الرياح السارية من حوله ، والمياه الجارية من أمامه جلساء يشكو إليهم همه ويشرح لهم ناره …
كان يمضي ساعات على شاطئ دجلة ، جالسا إليه في حديث طويل ، يسكبه على صفحته الرقراقة ، قائلا :
’’ أيها المتدفق كدمعي ، الهائج مثل نار شوقي .
ما لي لا أراك في ساعة من ليل أو نهار إلا هائجا زخارا ، لا يقر لك قرار ، ولا يهدأ منك البال ؟!
أم يبدو أنك تعاني مثلي ويلات هذا العشق وجنونه ، وينطوي سرك على حبيب أفقدك القرار والهدوء فهي الذكرى تثير في طيات جوانحك هذه الثورة الدائبة ؟
ولكن من يكون معشوقك غير هذه الجزيرة الخضراء التي تظل دائرا من حولها ؟ ففيم الهياج إذا ؟ وهي نائمة بين ذراعيك منازلها مستقرة في قلبك ، يمناك ملتفة منها حول الخصر ، وشمالك مبسوطة فوق عقد النحر .
كل هذا ، ثم لا تشعر بالنعمة ووجوب شكرها ! … تظل ترغي وتزبد . هياجك يعلو إلى عنان السماء ، وأُوراك ينبعث صداه إلى ديار بغداد ! ألا قل لي ، ما الذي تبغيه بعد كل ما أنت فيه ؟ وأي أمل ضاع منك ، حتى تظل حول نفسك من أجله ؟
لقد كان أولى أن يكون نحيبك هذا في حلقي ، وهياجك في نفسي ، ولقد كنت أجدر منك بأن تعلو إلى السماء زفراتي ، وأن ينبعث حول هذا البلد أوار قلبي .
فأنا الذي أظل متحاملا بقلبي على خنجر قد غرس فيه نصله . تراءى لعيني منه ، إذ كان بعيدا ، بريق ماء عذب ، ثم استقر منه في فؤادي سم زعاف ليس له دواء له اليوم !
هو يا دجلة قلب مجدب ، أحرقه وهج اليأس ، فما ضر لو نظرت إليه مرة أو مررت عليه في تطوافك حول هذا البساط الأخضر الموشى بالورود وأزهار النرجس والبنفسج ؟ فربما كان أخضرّ فيه أيضا غصن ، أو هفت بين سمومه نسمة باردة .‘‘
ثم يلتفت إلى الرياح التي تظل هافة من حوله ، فيتخذ منها رسولا إلى مليك قلبه ، ويروح يلقنها رسالته إليه قائلا :
’’ أيها النسيم الساري في رقة الروح ، المفتوح أمامه باب كل عزيز وممنوع . هل لك أن تلتفت إلى رجاء يعرضه عليك هذا المقيد الحبوس ؟ إن كان كذلك ، فامض أيها النسيم في اتجاه هذا المشرق ، فسترى فيه شدة الروعة والجمال ، ومحراب سعادتي وأنسي . فإذا ما وصلت فقف بالأعتاب أولا لتقبلها . ثم ادن إلى مليك ذلك الجمال ، ولكن في تواضع ولطف ، لكي تؤدي بين يديه الثناء اللائق وتقوم له بالتعظيم الملائم . ثم تراجع خطوات إلى الوراء لتعرض عليه رسالة الروح المستعرة .. قل له إنها من مدعوك الذي دمه مداد قلمه ، وجسمه المتقد صفحة كتابته .
فإذا ما رأيت رقة بدت ملامحها على وجهه فقل له في أدب ولطف : إنه يا مولاي بائس مسكين .. عاش فترة في حلم قصير من عطفك ، ثم سرعان ما تبدد الحلم وضاع العطف ، وغدا يتخبط في دياجير البؤس والشقاء . إنه ليس يدري والله أي ذنب ارتكبه ، اللهم إلا قلبا يعرف أنه كان يخفق بين جنبيه ، وهو اليوم هارب منه قد افتقده منذ أمد طويل . ربما كان وهو يخفق بين جوانحه صاحب هوس وهوى يميل إليه ، وربما كان قد اقترف إذ ذاك إثما أو جنى ذنبا ، كأي واحد من هؤلاء الذين خلق معهم النقص والسهو والنسيان . نعم ، للمالك يا مولاي أن لا يتجاوز عن عصيان عبده ، وأن يتصرف كما يشاء في عقابه . ولكن هل من البعيد أيضا أن يتغمده بعطفه ، وأن تدركه الرحمة له فيدينه إلى ظل حماه ولطفه ..؟
ثم لا تنس أيها الصبا أن تعود إليّ بغبار من تراب ذلك المكان . عد إليّ ولو بقليل منه ، فإن ذراته رائحة قلبي وبلسم دائي .‘‘
أمّا أشد ما يكون تألما واحتراقا ، فذلك عندما يُرى منطويا على نفسه مطرقا في غيبوبة عن كل ما حوله من مظاهر الدنيا وصور الطبيعة وأفراد الناس .
إنه في تلك الساعة يكون في مشادة دامية مع قلبه . قلبه الذي أدبر عنه مرة واحدة ولم يعد يتعرف إليه . إنه يظل يخاطبه في توجع شديد قائلا :
-’’ أيها الخائن الغدار … قل لي .. هل تتذكر ..؟
هل تذكر العهود والمواثيق والأيمان ، التي كنت يوما ما تسوقها إليّ جملة واحدة لتؤكد بها مبلغ وفائك وإخلاصك ؟ هل تذكر إذ كنت تقرر لي في شدة وعزم ، بأنك صادق معي في كل أمر ، وأنك مرتبط بي في كل آن ووقت .
هل تذكر إذ كنت تفتخر أمامي ، مدعيا بملء شدقك أنك ذو بأس عظيم وتحمل شديد في سبيلي ومن أجلي ؟
هل تذكر إذ كنت تقعد لتطلعني على مدى غرامك العجيب بي . ذلك الغرام الذي يستحيل أن يشغلك عنه أي شاغل أو يصرفك عنه أي صارف ؟
هل تذكر إذ كنت تتصنع الكبرياء والصلف على الناس كلهم من أجلي ، وتشعرني بامتهانك لكل من على هذه الأرض في سبيلي ؟
أسفا .. أسفا إذ أطرت كل ذلك اليوم بنفخة من عدرك ، ونسيته مرة واحدة لأول هوى في نفسك ، وتركتني إلى حيث لا أجد سبيلا للحاق بك والوصول إليك .
ألا قل لي بأي حق أيها الطائر الأهوج الصغير تنطلق إلى حيث تشاء تاركا ورائك هذه الروح المعذبة في محبسها من هذا الجسد ؟
هذه الروح التي خلقت معها توأمين ، وعشتما معا خير قرينين ، تمد وجودك دائما بسر من فيضها ، وتبث فيك الاشراق من نورها .حسبك طيشا أيها القلب . وكفاك ابتعادا وتوغلا في المجاهل منفردا عن قبس روحك وسراجها . فإن الطريق ، ويحيك ، مظلمة . والهدف أمامك بعيد .
إنها ، ويحك ، روحك ! روحك التي هي جزء منك إنها أجدر وأولى بحبك من أي روح أخرى تسعى ورائها . إن كان مقصدك الجمال ، فما أكثر ما أولتك هذه الروح من جمالها وإن كان النور والاشراق ، فمن ذا الذي يغذيك بأكثر من نورها وإشراقها .
أيها القلب عد . عد لا تخدعنك مفاتن الغرور والأصداغ ولا تصدقن شيئا من ابتسامات الثغور والشفاه ، ولا يأخذنك سحر العيون النجل ، أو يجذبنك إشراق الوجوه بين ظلمة الشعور الملتوية . فكل هذا الذي يتألق في عينيك نوره إنما هو نرا وجمر ، سرعان ما يتوقد عليك لهيبا ، وتهلك في لظاه .
وإلا ، فإن مثلك ألف بلبل ، يقضي كل ساعات العمر بين الخمائل والورود في نحيب وآلام .. ثم لا يكون نصيبه منها إلا كما يكون نصيب الفراشة من اللهب . لظى وضنى واكتواء .. ثم هو بعد ذلك قطعة أديم يابسة ملقاة في مهب تلك الورود والأغصان .
أيها القلب أنت معرض نفسك لمجال الهوى والملذات ، مقصدك الوصول إلى صفوها والاستمتاع بنعيمها . ولكني قد عرفت لك مما قاله لي الطبيب الحاذق لهذا الداء أن شفاءك إنما هو الاحتماء عن مطارح الشهوات ، ومبتغاك كامن وراء أشواك الرياضة والحرمان . لقد حدثني هذا الطبيب بأن الداء هو بعينه ذاك الرحيق العذب الذي تهفو وراءه نفسك ، والدواء ليس إلا ذلك العلقم الذي تشتكي منه وتعافه .
أيها القلب ، كيف أكلمك ، وعمّ أحدثك وماذا أقول ؟ لا أراك إلا مدبرا عني ، لاهيا عن حديثي وصوتي ، كأنك لم تكن يوما تعرف صاحب هذا الصوت والرجاء .‘‘
وهنا لا تلبث أن تتضرم هذه الكلمات نارا على القلب المسكين ، ويتصاعد من سويدائه إلى أعلى الرأس فيح كأنما هو الدخان واليحموم ، وسرعان ما يتلبد هذا الفيح مثل سحاب مركوم في يوم ممطر . ثم ما هو إلا أن ينهمر بسيل من الدموع الحارة متدفقة من العينين ! هنالك يروح ’’ ممو ‘‘ مستسلما لتلك الدموع في نشوة وذهول ، ويظل مستروحا بلهيبها ، منتعشا بتدفقها ، بعد أن كادت تخنقه غصة تلك الكلمات في حلقه ، إلى أن تجف من العين ، وتنعصر منه الحشاشة والكبد ، حيث يعود ثانية إلى الحرب بين روحه وقلبه ، ويختنق مرة أخرى بالأحاسيس القاسية ، ويظل يعاني من غصتها إلى أن ترحمه حشاشته بفيض آخر من الدموع . وهكذا تظل القصة تتكرر وتعود .
بكى ممو حتى تقرحت عيناه .. ولم يزل يتوجع ويتحرق حتى كادت أن تنطفئ جذوة حياته . ولم يزل ينهار منه القوى وتخور فيه العزيمة ويصفر منه الشكل إلى أن طرحته الحمى في مكان ما على شاطئ دجلة وحيدا إلا من بعض أصدقائه المخلصين الذين كانوا يعودونه ويواسونه بين كل فترة وأخرى .
أما داره في المدينة فقد تركها حتى قبل أن يطرحه المرض ، فقد كان يحاول جاهدا أن لا يعلم أحد من الناس سريرة قلبه إلا من كان من خاصة أصحابه كتاج الدين ، خشية أن يبلغ الأمير ذلك فيزداد إلى قسوته ضرام الحمية ، ويذهب خياله إلى أبعد من الواقع بكثير

رحلة إلى الصيد

كان ذلك في يوم شمسه مشرقة وسماؤه صافية ، قد ازدانت فيه الطبيعة بأبهى حلة وأبدع وشي ، تلاقت فيه بهجة الزمان بابتسام الخمائل والورود الرياض تتألق بسندس أخضر وتخفق بنسمات فواحة بالعبير ، والربا أكاليل زمردية فوق جبين الطبيعة نثرت في أطرافها يد الخلاق أبدع ألوان الزهر ، والجبال الشم قد نسجت حول قممها الخضر آيات خالدة من الجمال والجلال تتطلع إلى عظمة ذلك الجبار الذي أرساها وأقامها ، والأودية غاصة بأشجار باسقة ، ينبعث من تلافيف أغصانها غناء مختلف البلابل والأطيار ، وعيون المياه تنساب بين كل ذلك في إشراق وبريق ، كأنها وشي من الحلى المتألق في أطراف غانية
وكان قد أطلق منادى الأمير قبل ذلك يعلن في شتى أطراف الجزيرة عزم الأمير على الخروج إلى الصيد في ذلك اليوم ، وأن على كل صاحب قوس أو نبل ، أو ساعد وعزيمة أن يكون في ركاب الأمير في تلك المباراة التي سيتولى الإشراف عليها والمشاركة فيها
وفي صبح اليوم الموعود تدفق كل أعيان الجزيرة ووجوهها وذوي البأس والمراس فيها . وفي مقدمتهم الأمير وحاشيته إلى خارج المدينة ، وقد تنكب الجميع أقواسهم وصحبوا كل لوازم الصيد وأسبابه ، وتبعهم من ورائهم معظم أهل الجزيرة من صغير وكبير ونساء ورجال ، ليستمتعوا بمشاهدة تلك المباراة الرائعة التي ستكون تحت إشراف الأمير …
وسرعان ما انتشر الجميع بين تلك الأودية والآكام ، وغابوا متفرقين في شعاف الجبال ، كل يبحث عما يستطيع أن يفاخر به غيره في المساء . فربما كان نصيب هذا أسداً كاسراً أو نمراً عاتياً ، يعرض فيه على الناس مقدار شجاعته وإقدامه . وربما كان نصيب ذاك غزلاناً بديعة ، يثبت لهم بها خفته وبراعته . وربما جاء آخر بأشكال نادرة من الطيور والحيوانات . وربما ظهرفيهم من تلقف من كل صنف ونوع ، فراح يهز بينهم سنانه وقوسه ، ويلوح لهم بساعده القوية ، وقد يأتي من ورائهم من خانه الحظ ولم ينل أي نصيب .
ويمضي الأمير إذ ذاك موزعا بينهم إعجابه وتقديره ، وموليا كلا من المكافأة والقرب ما يستحق .

لقاء الحبيبين

ولندع الآن أولئك الذين تفرقوا في تلك الشعاب منهمكين في شأنهم .. ولنعد أدراجنا إلى داخل العمران الذي أصبح خاويا من الناس ، ولنأخذ سمتنا إلى القصر .. فسنجد على البعد شبح فتاة واقفة في إحدى نوافذه في جمود وإطراق . ومع دنو خطواتنا من القصر نتبين أن هذه الفتاة إنما هي ’’ زين ‘‘ . هي تلك الغادة التي كانت في يوم ما تظل ترقص جنبات القصر بظرفها وخفتها ومرحها . ها هي اليوم ، تقف على هذه النافذة في ذبول وإطراق ، وقد اثّاقل بها الهم والكرب ، ونال منها الشحوب والضنى ، مسندة رأسها إلى قبضة كفها ، تتأمل بعين كبار الفلاسفة والحكماء هذا الوجوم المخيم على القصر ومعظم ما وراءه من الأزقة والميادين . إنها تقرأ في ذلك المظهر الطارئ من السكون والوجوم معنى الفناء والانتهاء الذي ينتظر كل إنسان من وراء ساعات لهوه ومرحه ، وتتبين فيه نموذجا عن حالة قلبها المقفر ، الذي طالما ظل مزدهرا بآمال بديعة محفوفة بالأحلام الجميلة ، ثم في مثل طرفة العين احترقت كل تلك الآمال وعصف الدهر برمادها ، وتبددت الأحلام الجميلة ، وأيقظها الزمان على غصة البؤس والحرمان .
ولاحت تحت عينيها – وهي في تلك الأثناء – حديقة القصر وهي كبيرة شاسعة الأطراف تفنن الأمير في تشكيلها وإبداعها . جمع فيها كل أشجار الفاكهة وغيرها . ونسق فيما بين ذلك كل أصناف الورود وألوان الأزاهير التي ولدتها الطبيعة فوق أي رابية من الروابي ، أو على أي شاطئ من الشطآن . تنساب فيما بينها جداول رقراقة تبعث فيما حولها تتمة مظهر الرونق والإبداع .
لاحت لها تلك الحديقة خالية .. هادئة ، لا يجوس خلالها أي إنسان ، ولا يرى من بين أغصانها أي مستأنس أو مستمع ، إلا فراشات تجوب بين تلك الورود ، وطيورا يسمع صوتها من بين أوراق الأغصان . فحدثها خاطرها – وقد راقها سكون تلك الحديقة ووافق هواها – بأن تنتهز فرصة وجود بقية طوق في جسمها وحركة في أطرافها ، فتخرج من محبسها في هذا القصر لتمشي قليلا وسط تلك الحديقة علّها تجد بين نسماتها بردا من الراحة والانتعاش .
واستجابت زين لهذا الخاطر في نفسها ، فنزلت من القصر متجهة نحو الحديقة في تحامل وإعياء شديدين ، وقد ارتدت ثوبا بسيطا من الحريرالأبيض الرقيق ، وشدت خصرها من فوقه بمنطقة سوداء منمنمة بنقوش متفرقة من خيوط الفضة ، أما شعرها فقد جمعته تحت شارة سوداء من القطيفة السميكة في مثل هيئة طربوش قصير يمتد في طرفيه خيطان من الفضة ، وقد أمالت طرفه على جبينها بينما ظل الطرف الآخر مرتفعا عن الصدغ وقد بدا من تحته شعرها الفاحم المسترسل .
ودخلت الحديقة ، وراحت تمشي بين جنباتها ، وهي تقلب نظرها في الطيور التي ترفرف بين أغصانها قائلة :
’’ أيتها الأطيار السعيدة : كان لي بينكم في هذا الروض طائر مسكين ، أسود الحظ ، منكوب الطالع ، وقد غاب عنه منذ دهر وحلق في الجو منطلقا ولم يعد ! أفليس منكم من يدري في أي روض استوطن ، وعلى أي غصن أقام عشّه ؟… وهل فيكم من يحدثني عنه ، أهو حي لا يزال يخفق بجناحيه ، ويغرد فوق أغصانه أم نكبه الدهر مثلي فطرحه وأضناه ..؟؟‘‘
ثم انتهى بها السير عند شجرة وارفة الظلال . فارتمت عندها ، واستندت إلى جذعها ، وراحت تتأمل ما حولها من الأزاهير والورود المختلفة الشكل . ثم ثبتت عيناها على وردة صفراء ، وقد تميزت ، عن سائر ما حولها من الورود بصفرتها الفاقعة ، فأثار ذلك اللون حسرتها وأيقظ آلامها … وسرعان ما تخيلتها بائسة أخرى مثلها ، قد اصطبغت بتلك الصفرة مما قاسته في هذا الروض من الوحدة والوحشة ، ليس من يرحمها ، ولا من يرق لها ، فراحت تخاطبها في رقة وحنان :
’’ أيتها الوردة الصفراء ، إن اصفرارك هذا والله قد أحزنني .حدثيني ، أهو لون بؤسك أنت أيضا أيتها المسكينة أم هو التوجع والرحمة لأمثالي من البائسات ؟ أم هي البلابل . قد انشغلت جميعها بورودها الحمراء ، فبقيت وحيدة ليس حولك أي مؤنس أو قرين ؟
آآآه … إنها قصتي ذاتها أيتها المسكينة .! إن لي أختا من أمثال تلك الورود المزدهرة الحمراء ، كان لي عندليب طالما توسلت إليه في إسعادي أنا أيضا به ، ولكنه أبى ، وأبعدني عنه ، وسقاني في بعده ذل البؤس والهوان .‘‘

وكأنما شائت الأقدار رحمة لهذين الحبيبين البائسين في ذلك اليوم الذي انصرفت كل الناس فيه من دونهما إلى اللهو والمرح فقررت أن ترأف بهما في ظل هذا الهدوء . .. فراحت تلقي في تلك الساعة في روع ذلك العاشق المرتمي منذ حين على فراش المرض ، رغبة ملحة في الحركة .. في السير .. السير إلى أيّ جهة …!
فأخذ يتقلب ممو فترة في فراشه ، وهو لا يدري أي سبب لهذا الباعث المفاجئ في نفسه . ثم أزاح عن نفسه الغطاء وأخذ يجاهد جسمه المتعب في القيام من الفراش الذي ظل حينا من الدهر ملتصقا بجنبه .
ثم نهض فارتدى عبائته الرقيقة ، فوق الحلة البسيطة التي كان يلبسها .. وأخذ يمشي ..
أخذ يمشي في الطريق التي تمتد أمام عينيه ، دون أن يحدد لنفسه أي اتجاه ، ولم يزل سائرا في تحامل وجهد إلى أن وجد نفسه بين أسواق المدينة الخالية . فأدرك من الهدوء السائد في معظم جهاتها أن الناس قد خرجوا وراء الأمير وصحبه في رحلته إلى الصيد للنزهة . ولاحت لعينيه خضرة زاهية في بعض نواحي المدينة فهفت نفسه إلى أن يتوجه نحوها ، ويتمم سيره إليها ، دون أن ينتبه إلى تلك الخضرة ماذا تكون ، وفي أي مكان تقع .
وبعد قليل كان ممو يقف في جهد وإعياء أمام حديقة الأمير زين الدين ، ينظر من وراء سورها إلى جوها الرائع ، ويتأمل هدوئها الكامل ، وخلو جنباتها عما سوى الطيور . ووجد في نفسه بعد ذلك النصب الشديد الذي لاقاه شوقا قويا إلى أن يستريح قليلا في فيئ شجرة من أشجارها . فمضى متجا نحو بابها المؤدي إلى الداخل ، وقد كاد يسقط من الإعياء .
ولم تكن سوى دقائق حتى لاح لعيني زين – وهي لا تزال في مكانها عند ساق الشجرة – شبح ممو على البعد ، قادما من بين الأغصان ..! وكانت المفاجأة شديدة على نفسها … وكانت الفرحة أكبر من قلبها .. فما إن أخذت تحدق النظر فيه لتتأكد أهو خيال من خيالات أوهامها ، أم معجزة حققها الله لها ، حتى غرب عنها الإحساس وطمت عليها الدهشة ، ووقعت مغمى عليها ببين تلك الحشائش والأشجار .
أما ممو فإنه أخذ يسير مستروحا ظلال تلك الخميلة البديعة التي طالت غيبته عنها دون أن يدرك شيئا مما حوله . وكان أول ما انتبهت إليه عيناه في سيره تلك البلابل التي لا تفتأ تتنقل بين أغصان الورود في تغريد لا ينقطع . فراح يتأمل فينة وهو يقول :
-’’ فيم كل هذا الهلع أيها الطائر الصغير ؟ إن وردتي التي شغفت بها أزهى من ورودك جمالا ، والحظ الذي نكبت به أشد من حظك سوادا ومع ذلك فها أنا أذوب وجدا ولا يسمع مني أي نحيب أو صوت .
أيها الطائر ، لقد كان جديرا بك أن تتألم وتتوجع لو أن رياض الدنيا ليس في جميعها إلا وردة واحدة ، كما هو الشأن معي أما وإنه ليس من هذه الأزهار في أي روضة من الرياض أو إلى جانب أي غدير من الغدران ، أو في أي سفح من سفوح هذه الجبال ، فليس التعلق بها موجبا لأي قلق أو شوق إلى هذا الحد .
ولكن قي لي ماذا يصنع وبم يتأسى ذلك الطائر الذي تولّله بوردة لم تجد الدنيا بمثلها ! ثم حرمه الدهر من قربها ، وأبعده حتى عن روضها ، وتركه وحيدا في قفص الوحشة والأحزان ؟ ‘‘.
وهكذا ظلت أفكار ممو وهو يمشي في وسط الحديقة منصرفة إلى مثل هذه الأحاديث مع كل ما يبصره من حوله من الأطيار والورود والأعصان ، إلى أن وجد نفسه فجأة أمام جثة فتاتة ممتدة فوق تلك الحشائش ، ولم يكد ينتبه إليها ، ويمعن النظر ليتبينها حتى دارت الأرض من حول رأسه دورة بددت كل ذرات شعوره ، وألقته في يم من الغشية والنسيان ، وهوى صريعا على مقربة من جثة زين .
وشيئا فشيئا أخذت زين تستفيق من غشيتها لترى ممو الذي أبصرته يمشي في الحديقة منذ قليل ملقى إلى جانبها . فعادت إليها الدهشة والذهول . وأخذت تحدق النظر في كل ما حولها .. في جدول الماء الذي ينساب أمامها ، في الورود التي إلى جانبها ، في ممو وهيأته ، كأنما تتسائل أهي في حلم من الأحلام أم إنها حقيقة واقعة صحيحة ..؟
ثم استعادت كامل رشدها .. وأيقنت أنها نعمة ورحمة من الأقدار التي أرادت أن تسعدها في هذا اليوم .. ودنت لأول مرة بعد يوم مهرجان الربيع إلى حبيبها الملقى إلى جانبها ، فاخذت تلحظه بعينيها الفاتنتين ، وقد عاد إليهما إشعاعهما بعد أن اختفى عنهما حينا من الدهر . ثم رفعت رأسه بيمينها في رفق ، ومدت ركبتها من تحته ، وأسندته إليها ، وراحت تحاول في رقة ولطف إيقاظه من غمرته . وبعد فترة من الوقت تفتحت عيناه .
فتح عينيه .. فرأى رأسه فوق ركبة حبيبته زين … ورأى أجمل وجه في الدنيا يطل عليه بثغر باسم وعين دامعة ورأى يمينها ممتدة فوق صدره الخفاق في حنو .
ورفع رأسه .. وأخذ يجيل النظر فيها .. وفي نفسه .. وفي سائر ما حوله .. دون أن يدور لسان أحدهما بكلمة . هذا أسكتته الدهشة .. وتلك عقد لسانها الحياء .. ثم أمعن ممو في وجه ’’ زين ‘‘ قائلا :
’’ ماذا ..؟ ألست أنت زين ..؟ ألست أنت قلبي .. قلبي الذي فقدته من بين جنبي ؟ ولكن .. أتراني في منام رائع .. أم نحن في الحياة الأخرى ..؟ في جنان الخلد !! ‘‘
فقالت له زين وقد أخذت كفه في كفها ، كيما يؤوب إليه رشده :
’’ بل أنا زين بحقيقتها يا حبيبي . ونحن هنا في الحديقة ، حديقة قصرنا ألست تذكر .‘‘
وأخذ انتباه ممو يتكامل بعد أن انتهى إلى سمعه صوت زين الرقيق العذب ، وآمن بالحقيقة .. وعلم أنها الساعة التي طالما استرحم الزمان بدموعه أن يحقق لحظة منها ، وعاد ينظر إلى زين من جديد . وأخذ يسرح النظر في عينيها الساجيتين اللتين تنظران إليه بفتنة مبتسمة مستسلمة كأنما تقول :’’ إن هاتين العينين من أجلك …‘‘ وفي ثغرها الرقراق البديع ، وفي ملامح وجهها التي تشع بكل ما في روحها من جمال ولطف ، وفي شعرها الفاحم المسترسل حول وجهها من تحت الشارة المائلة على جبينها .
وسكت … ثم قال لها في نشوة حالمة : ’’ أنت والله جميلة جدا ورائعة يا زين ‘‘ .. فأجابته : ’’ أنت كل جمالي وسحري وروعتي يا ممو . فها أنت ترى كيف فقدت كل ذلك مذ فقدتك فلا تبحث فيّ اليوم عن شيء من ذلك الجمال الذي أسكرك منذ أول ما التقينا …‘‘
فدنا منها قائلا :
’’ لا يا زين . إنك اليوم والله لأجمل مما كنت من قبل . وها أنا ذا ألمح بين أيات هذا الجمال سطورا جديدة لم تكن . عيناك … إن فيهما أسمى مما يقال عنه الفتنة والسحر . فيهما معنى رائع ، احتارت في معرفته روحي ، فكيف يستطيع التعبير عنه لساني ..؟ ثغرك … إن خمره اليوم لتبدو أشد إسكارا ، وابتسامته أكثر فتنة وجمالا . أما هذا الذبول المتهدل على ملامحك فليس إلا آية جديدة بين آيات هذا الجمال الساحر ، ولست أجده في استرخائه ملامح وجهك البديع كالأهداب الناعسة ، إذ تسترخي على العينين الفاتنيتين …‘‘
وقطع حديثة فجأة .. كأنما أسكتته وخزة أليمة شعر بها في نفسه ، ثم أطرق يقول في هدوء محدثا نفسه :
’’ ولكن مالي ومال الحديث عن الجمال الذي لم أصل إليه ولن أملك منه شيئا ، ما لي وأنا المسكين الذي قضت عليه الأقدار بالحرمان ، أتطاول بهذا الكلام إلى البدر الذي لست أهلا للصعود إليه ؟ لي أن أتوسد البيداء التي أتيت منها ، أما هذا الروض فإن له أهله الذين سيجلسون فيه ويستمتعون به ..‘‘
ثم قطعت غصة البكاء حديثه ، وراح يجهش في بكاء حار أليم ! وامتد لهيب دموعه إلى قلب زين فأخذت بكف ممو تبلله بدموعها قائلة :
’’ أقسم يا ممو بالدموع التي أحييت بها الليالي السود ، وبالزفرات التي أذبت فيها بهائي الذي أعجبت به ، وبالخلوات التي لم يكن يترائى لي فيها سوى رسمك ، أنني لن أعوّض عنك إلا بوحشة القبر ، ولن يعانقني من بعدك إلا شبح الموت ، وسأكون وقفا من أجلك ، فإما أن يكون وصالنا في هذه الدنيا ، وإما في الحياة الآخرة …‘‘
ثم أنهما خشيا أن تلمحهما عين أو تسمع حديثهما أذن في ذلك المكان . فقاما ، واتجها إلى قاعة الحديقة التي كانت مقامة في وسطها . وهناك جلسا يتواسيان .. ويشرحان الهموم والأحزان .. ويتشاكيان من فتنة الدهر وأهله .. وراح بهما ذلك الحديث واللقاء في نشوة حالمة أسكرتهما عن الدنيا وما فيها .

الوفاء

انتهت الشمس إلى مغيبها ، وعادت فلول الناس الذين كانوا غائبين في الرياض إلى بيوتهم ، ودبت الحياة في المدينة ثانية بعد الوجوم الطويل ، والحبيبان السعيدان لا يزالان في مجلسهما ذاك ، منتشيين بخمر اللقاء ، وغاب عن فكرهما معنى الزمن وحدوده فلا يشعر أحدهما منه بشيء .
وعاد الأمير وصحبه من الصيد .. وجاءوا يؤمون الحديقة ليطلقوا في أنحائها ما صادوه من الغزلان والخشاف ونحو ذلك … وامتلأت الحديقة بالناس .. وثارت الأصواتوالضجة في كل جهاتها ، والحبيبان لا يزالان في غشية تامة عن كل ما يطوف حولهما .
وأحس الأمير وهو واقف مع صحبه فيإحدى جهات الحديقة بالتعب يسري في مفاصله ، وشعر بالحاجة إلى أن يستريح مع صحبه قليلا فتوجهوا جميعا وفيهم تاج الدين وشقيقاه وبكر إلى القاعة .. القاعة التي لا يزال ممو وزين يتبادلان فيغبش ظلامهما حديث الحب في ذهول عن كل شيء . ولم يستيقظا من نشوتهما تلك إلا حينما داهمتهما الأشباح .. وأغلقت أمام عينيهما فضاء باب القاعة …!
هنالك انتبه كل منهما إلى ما حوله .. وأسقط في أيديهما …
وهنالك .. لم يكن من زين إلا أن اندست تحت عباءة ممو وتضائلت خلفه . بينما دخل الأمير القاعة ، ومن خلفه جماعته ، ليجدوا شبحا منزويا في ركن من أركانها وسط ذلك الغبش من الظلام …! فصرخ الأمير فيه قائلا :
’’ من هذا القابع هنا ، وسط هذه الظلمة ، من غير أي رخصة أو استئذان …؟‘‘
فاستجمع ممو جرأته ، ثم قال ، دون أن يتحرك من مكانه :
’’ أنا ممو يا مولاي الأمير … لم يكن يخفى على مولاي أنني كنت أعاني إلى هذا اليوم مرضا شديدا أقعدني في الفراش ، مما منعني عن اللحوق بركب مولاي إلى الصيد . غير أنه أدركتني في هذه الأمسية وحشة الإنفراد ، فغادرت الفراش لأمشي قليلا .. ووجدتني أمام هذه الحديقة .. فاشتهيت الراحة فيها بضع دقائق ..‘‘
فقال له الأمير ، وهو يتوجه إلى الركن الأعلى في المكان ليجلس فيه :
’’ حسنا . وكيف حالك اليوم …؟ وهلا أسرجت لنفسك …؟؟ ‘‘
فقال : ’’ لو وجدت في نفسي الطاقة إلى ذلك لقمت بواجب التحية .. ونهضت من مكاني لقدوم مولاي .. ولكن أرجو أن يعذرني ويعفو عن تقصيري ..‘‘
وأسرج المكان وجلس القوم .. وأخذ تاج الدين يلحظ ممو من مكانه في المجلس ، ويقرأ في وجهه وفي هيأة جلوسه وجمودها دلائل ارتباك لم ينتبه غيره إليها ، إذ كان هو الوحيد الذي يدري سر قلبه وآلام نفسه ، وساوره القلق .. وتطلعت نفسه إلى معرفة السر الحقيقي لجلوس ممو هنا … في هذا الوقت … بهذا الشكل !! فانتهز فرصة طلب الأمير كأسا من الماء بينما راحت عيناه تسألانه عن حكايته وسره .. فلم يكن من ممو إلا أن مد يده في هدوء إلى داخل العبائة ، وأخرج له طرفا من ضفيرة زين يريه إياها ..
فرفع تاج الدين رأسه وقد أذهله الأمر .. وأدرك أن خليله بين يدي كارثة قريبة .. ما من ريب في أنها ستأتي على حياته . وأخذ حاول السيطرة والضغط على أعصابه ليتصنع الهدوء اللازم ، بينما راح عقله يبحث في ثورة لاهبة عن أي وسيلة لإنقاذ حياة صديقه من فاجعة محققة .
ولاحت لذهنه الفكرة … فكرة واحدة لم يجد أمامه سواها فتظاهر في لباقة بالحاجة إلى الإختفاء قليلا في بعض جهات القصر . وما هو إلا أن انثنى خلف باب القاعة حتى أسلم ساقيه إلى الريح متجها نحو داره ..!
ودخل الدار لاهثا ، وعلى ملامح وجهه ثورة كالجنون . فاستقبلته زوجته في رعب شديد ودهشة قائلة :
’’ ماذا . ..ماذا حدث هل هناك أي عدو ؟! ‘‘
فأجابها بصوت خافت كي لا يسمعه أحد وهو يسرع إلى الداخل :
’’ عليك أن تسرعي بإنقاذ طفلك وما خف حمله من هنا . أما أنا فيجب أن أبادر إلى إحراق هذا القصر ..! ‘‘
ثم تابع حديثه وهو في عجلة مضطربة نحو مكان الوقود قائلا :
’’ إن ممو و زين واقعان تحت ورطة عظيمة ، في انتظار كارثة محققة توشك أن تقع بهما . ولا بد أن أسرع في مسابقة هذه الكارثة لأقضي عليها قبل أن تقضي هي عليهما ..‘‘
ثم راح يشعل النار في أثاث ذلك القصر الرائع وجنباته بسرعة ثائرة وهو يقول :
’’ لقد ظل الناس يطفئون النار بالماء ، ولكن ها أنا اليوم سأطفى النار بالنار …‘‘
وفي مثل غمضة عين انطلقت ألسنة اللهب تتصاعد من نوافذ ذلك الصرح الذي شيده تاج الدين على أحسن ما تخيلته أحلام حبه جمالا وبذخا وإتقانا ، وأخذت النيران تسري في ذلك الأبنوس المنقوش والأثاث الرائع ، في سبيل إنقاذ صديقه .. والوفاء له ..!
وانطلق تاج الدين يستنجد .. وراح الخبر يسري في كل مكان .. وسرعان ما وصل النبأ إلى الأمير وصحبه وهم في مجلسهم ذلك .. فهبوا جميعا في اندفاع وذهول يسرعون إلى النجدة والإطفاء .. بينما تباطأ ممو في مجلسه إلى أن خلت القاعة تماما .. وهناك تنفس الصعداء والتفت إلى زين قائلا :
’’ أرأيت كيف ضحى تاج الدين بقصره من أجل إنقاذنا ؟! والآن وداعا يا زين .. فعلي أن أدرك القوم لإطفاء هذه النار ، أما أنت فينبغي أن تسرعي الآن وتعودي إلى القصر …‘‘

وقفة عابرة

أيها الساقي حسبي … حسبي فإن العقل لا يزال مخمورا ويوم عمري قد أدركه المغيب ، وأخشى أن يداهمني سلطان الأجل كما داهم الأمير ممو ثم لا أجد من حولي خليلا وفيا مثل تاج الدين ينجيني وينقذني ..
أيها الساقي ، لقد عفت والله كؤوس هذه الأوهام الكاذبة .. فأبعدها عن شفتي .. أبعدها ، فلقد كفاني عربدة حول بريق هذا السراب .. أبعدها ويحك قبل أن يطرحني وهج الشمس أمام رقراقه الكاذب ، ويتلفني هناك الظمأ والضنى …
ولكن .. ولكن حدثني ، أليس بين زجاجاتك هذه ما فيه تلك الخمرة الأخرى ..؟ تلك الخمرة التي تعلو بي إلى رحاب القدس ، وتسكرني بروعة الجمال الخالد .. وتنشلني من بين هذه الأوهام الفانية وبريقها الخداع .
آه ما أحوجني إلى كأس قد اعتصرت من جنى الروح الصافية عن شوائب الدنيا .. ما أحوجني إلى كأس تسكرني سكرة تاج الدين بخمر إخلاصه ونشوة وفائه ، لكي أعلو بها فوق هام هذه المادة ، وأسحق بريقها تحت قدمي في سبيل الروح التي أعزها ، والوفاء الذي أدين به .
ماذا يفيدني تألق القصر الذي ضمني ، وبريق السرير الذي أمتد عليه ، إذا كانت الروح التي يصافحها قلبي قد أشرقت على الانطفاء ثم لم أفدها بنور ذلك القصر والزينة والسرير ؟ وماذا يضيرني من اللهب المتصاعد من حولي ، إذا كان بعيدا عن قلبي تاركا له برد سلامته وذخيرة حبه ؟.
هذه المادة الفانية ، ما أثمنها في القلب ، وأبعثها للنشوة في النفس ، عندما تكون فداء للمعاني القدسية الخالدة . وما أخسها في اليد وأهونها على هذه الأرض عندما تتكبر متطاولة إلى مركز البقاء والخلود …

عودة الفتنة

لم يكن سلطان الحب يوما ليجلس فوق عرش القلوب من وراء الستر المرخاة والحجب المسدلة . وليطل وقت اختفائه عن الأنظار والأسماع مهما طال ، فلا بد أخيرا أن يهتك كل ما يحيط به من حجب ، ولا بد أن يتراءى أمام الناس في جبروته القوي ، وسلطانه القاهر ، ولا بد أخيرا أن يعلن عن نفسه وعن شوكته سواء أرضي الناس أم غضبوا …
ولقد استطاع ممو وزين حينا من الزمن أن يخفيا عن الناس سريرة حبهما ، وأن يحجبا عنهم جبروت هذا السلطان الذي يتحكم في قلب كل منهما من غير رحمة ، ولكن هذه الطاقة لم تدم لهما طويلا .. فسرعان ما هتك من حول قلبيهما الستر ، وانتثرت مدامعهما بين أبصار الناس ، وراحت الألسن تتحدث عن حبهما ، وتتخذ من خبرهما لحنا يسري إلى كل مكان ، وينتهي إلى سمع السادة والعبيد ، وراحت التعليقات المتخيلة تنسج حول ذينك المسكينين البريئين اللذين لم يذوقا من الحب إلا صابه وعلقمه أقاويل كاذبة . وتسرب الخبر إلى ’’ بكر ‘‘ .
تسرب الخبر أيضا إلى سمع هذا الخبيث ، فراح يلفقه ويجمع خيوطه ويجري وراء الإيضاحات اللازمة له . وفي يوم ما كان قد انتهز الفرصة ، وراح ينشر كل ما سمعه من الأفواه ، وتلقفه من المجالس بين يدي الأمير وسمعه …!
فثار جنون الأمير – ويا لجنون الأمراء حين يثور – واشتعل الدم لهيبا في كل جسمه ، وراحت عيناه المتألقتان تشعان بشرر يكاد يحرق ما حوله ، وقام يذرع المكان الذي ليس فيه إلا هو وذلك الخبيث جيئة وذهابا ، وتقلبت على ذهنه المستعر أفكار جهنمية شتى . فقد كان يدفعه الغيظ مرة إلى أن ينطلق من توِّه بنفسه إلى حيث يجد ممو منفردا فيطير رأسه ، ثم يعود دون أن يعلم بالأمر أحد ، ويدعوه جنونه أخرى إلى أن يعلنها حربا لاهبة على ممو وصاحبه تاج الدين وكل أعوانهما .
ولكنه عاد أخيرا ، فتذكر أن هذا الذي يخبره بهذا النبأ حاجب حقير فتان . لا يستأهل إثارة غضبه قبل أن يتريث ويتحقق . فنظر إليه وقد راحت عيناه تنفجران بكل تلك الثورة والغضبة عليه وحده قائلا :
’’ يبدو أيها الحقير الوغد ، أنه يعجبك كثيرا منظر الدماء المسفوكة ..! ولكن إعلم أن هذه الدماء لن تسفك إلا من مذابحك ، إن لم تخلق أمامي البرهان القاطع لهذا الذي تقول ‘‘.
فجمدت ملامح بكر قليلا ، وزاغ عقله من صدمة ذلك التهديد .. ثم عاد فتمالك رشده قائلا :
’’ يستطيع مولاي أن يتحقق من هذا الذي أقول إذا دعا ممو إلى مبارزة بالشطرنج الذي يفتخر بالمهارة في لعبه . وليكن الشرط بينه وبين مولاي أن يحقق المغلوب للغالب كل ما يقترحه ويتمناه . فسوف يضطر إلى كشف ذات نفسه وعشقه للأميرة زين سواء أصبح غالبا أم مغلوبا عندما يطلب منه مولاي ذلك ..‘‘
فأعجب الأميربهذا الرأي .. وسرعان ما التفت فدعا خدمه ، وأمرهم بإعداد القاعة الكبرى – وهي القاعة التي كان يتخذ فيها مجلسه للهو والمرح – وتهيئتها لسمر حافل تلك الليلة ، بينما بعث بعض غلمانه الآخرين وراء ممو ليأتوه به ، ويبلغوه دعوة الأمير له للحضور إلى سمر في القصر …
وراح الأمير ينتظر .. وفي قلبه مثل الجمر اللاهب ، ودمه يغلي في رأسه . إنه في ظمأ شديد إلى أن يعرف .. إلى أن يعرف حقيقة هذه العاصفة التي نقلها له بكر ، لكي يشفي بعد ذلك غيظه ، ويتصرف في الأمر على النحو الذي يشاء …
وجاء المساء . وهيئ مجلس الأمير كما أراد .. ووضعت منضدة الشطرنج المرصعة بالذهب في وسط المكان ، وقد صفت من فوقها أحجارها العاجية النادرة . وامتلأت القاعة بالخاصة من حاشية الأمير ورجاله ، إلا تاج الدين وشقيقيه ، فقد تعمد الأمير أن لا يبعث ورائهم . وغصت سائر أطرافها بالحرس والخدم ، واقفين على أرجلهم صفوفا في أحسن لباسهم وكامل أسلحتهم .
ودخل الأمير . وهب المجلس قائما ، بينما راح هو يأخذ طريقه إلى الأريكة المقامة له في صدر المجلس . وجلس الأمير .. وسكت الحاضرون .. وأخذ يقلب عينيه فيهم في هدوء ورهبة إلى أن وقع بصره على ممو ، فمد إليه رأسه وقد إتكأ على جانب من أريكته قائلا :
’’ سمعنا أنك تزعم لنفسك مهارة في لعب الشطرنج يا ممو . فهل لك أن تعرض أمامنا الليلة مهارتك هذه ، وتقوم لنا بالمبارزة والنضال .‘‘
فأجاب ممو في هدوء ، وقد أدهشته القسوة التي شعر بها في نبرات كلامه : ’’ لم يكن لي يوما ما أدعي يا مولاي أمامكم هذه المهارة ، ولكن لمولاي السمع والطاعة إذا أمرني بما شاء ‘‘.
فنهض الأمير إلى منضدة الشطرنج يشير إليه ، قائلا :
’’ بل قم .. فإن بيننا وبينك الليلة حربا لا بد أن تتقدم إليها …‘‘
وقام ممو من مجلسه وقد أوجس خيفة في نفسه .. فجلس تلقاء الأمير ومن بينهما المنضدة . وقبل أن يبدأ باللعب قال له الأمير :
’’ إن الشرط الذي بيننا وبينك هو أنه يجب على الطرف المغلوب ثلاث مرات أن يحقق كل ما يقترحه الطرف الغالب ويتمناه ‘‘
وكان في المجلس ابن شاب للأمير يخلص الود لممو اسمه ’’ كركون ‘‘ ولم يكن يخفى عليه ما بينه وبين عمته زين من الحب .. وقد ألم بطرف مما في نفس أبيه من الموجدة عليه ، وخشي أن ينتهي ذلك المجلس بأي عقاب أو بلاء ينزل بممو . فتسلل من قصره ، وانطلق متوجها إلى تاج الدين يخبره بالأمر ، كيما يحضر ليهون الأمر إذا حدث شيء ، بما له من قرب إلى الأمير .
ولم تكن سوى دقائق حتى كان كل من تاج الدين وجكو وعارف قد اتخذ مكانه في ذلك المجلس ، يترقبون ما سيحدث …
وتغلب ممو على الأمير مرتين متواليتين .. وأخذا يبدآن بالمرة الثالثة وقد أعجب الأمير بدهائه ومهارته ، وبدا على وجه ممو وهو منكب على اللعب في استغراق شديد إشراق واضح من الأمل والسرور .
بينما راح بكر الذي كان يرمقه من بعيد ، يطوف حول نفسه في قلق بحثا عن أي حيلة يتعثر بها ممو عن التغلب على الأمير في هذه المرة . إذ لا شك أن نجاحه يعني ضرورة وفاء الأمير له بالوعد ، وذلك يعني زواج ممو من زين …
وفي تلك الأثناء لمح بكر زينا واقفة مع فتيات من القصر أمام النافذه المطلة من أعلى جدار القاعة المقابل لظهر ممو ، ترقب اللعب باهتمام .. فالتفت إلى الأمير قائلا :
’’ ولكن كان على مولاي أن يستبدل المكان من خصمه بين حين وآخر كما هو الشأن في اللعب …‘‘
فنهض كل من المتبارزين ، واستبدلا مكانيهما دون أن يدرك أحد الحيلة التي استهدفها .. وما إن مرت لحظات حتى انخطفت عينا ممو إلى أعلى جدار القاعة الذي يقابله ، ليجد زينا واقفة أمامه ترمقه
وهنالك تشتت ذهنه ، وعبثا راح يحاول جمع فكره والتغلب على الأمير كانت عيناه لا تنفكان عالقتين بالاعلى ، ويده تعثو بالعساكر والفرسان من غير هدى ، يفدي الجنود مرة بالخيول ، ويخلط أخرى بين الفيل والوزير وكانت النتيجة أن تغلب الأمير عليه خمس مرات متواليات وختم اللعب على ذلك !
وعاد الأمير إلى مكانه وقد غشي ممو الخجل والحياء فنظر إليه قائلا :
’’ إيه أنسيت الشرط يا ممو ؟‘‘
فأجابه ممو وقد توزعت أحساسيسه بين الغضب من المكيدة التي انتبه إليها والخجل من الإخفاق الذي انتهى إليه :
’’ لا …فليتفضل مولاي بالأمر بما أشاء .. ‘‘
فقال له الأمير :’’ إنك لست تجهل أننا لن نطلب منك مالا تغنينا به ، أو جاها ترفعنا إليه . و إنما يعنينا أن نعرف السرائر … فحدثنا عن قلبك . قل لنا من هي التي تكن لها حبا ، وتمني شبابك بها ، كي ننظر .. فإن كانت لائقة لك ، حاولنا إسعادك بها …‘‘
فأطرق ممو قليلا ، كأنما أخذت نفسه تحوم حول تفسير هذه الكلمات التي ألقيت إليه . وانتهز بكر فرصة هذه الإطراقة منه ، فقال :
’’ يا مولاي : يبدو أن ممو خجل من أن يكشف للأمير النقاب عن تلك التي يهواها . فلقد كنت رأيتها مرة ، وعلمت أنها جارية سوداء معيبة ، لا يليق أن يتحدث عنها في مجلس الأمير …‘‘
فأثار هذا الكلام غضب ممو ، والهبته حميته وإبائه ، وأخذ ينبض في مشاعره عرق العزة والمجد . وأسكرت الطعنة عقله . فنسي الأمير الذي أمامه ، والناس الذين من حوله ، وانتفض منتشيا يقول لبكر :
كذبت والله أيها الحقير النذل ، فما تلك الصفة إلا قرينة خستك ، وكفؤ دنائتك . أما التي عندها قلبي ، فرفيعة المجد ، ليس لذلك البدر أن يتسامى إليها ، رائعة الجمال ، لا تبلغ الشمس أن تكون أختا لها … أصيلة النسب ليس لغيرها في هذه البلاد أن ينازعها فخر ذلك . إنها أكمل أنثى أبدعتها يد الخلاق .
إنها … إنها أميرة هذه الجزيرة …! ‘‘
وما كاد أن يطلق هذه الكلمة الأخيرة من فمه حتى قاطعه الأمير وقد صوب نحوه فوهة الغضب قائلا :
’’ ولأجل ذلك ، فأنت لا تخجل من استطالتك إلى تلك المكانة بالغرام بها ، مدنسا بدنائتك قصري هذا …؟‘‘
ثم التفت إلى الحرس الواقفين على الأبواب وصرخ فيهم قائلا :
’’ ما وقوفكم وانتظاركم بعد هذا ؟ هيا .. فاقطعوا الرأس الذي تطاول فيه هذا اللسان فقد آن أن يعتبر به غيره …‘‘
وقبل أن ينقض الحرس على ممو ، هب من عرض المجلس ثلاثة أبطال أشقاء ، كل منهم هامة ، وساعد ، وقامة ..! وقد ظهر في يمين كل منهم خنجر يلتهب . وراح أوسطهم وهو تاج الدين يصعق في أولئك الشرطة الذين بادروا إلى ممو .. قائلا :
’’ مكانكم أيها الاوغاد ، فلستم سكارى ولا مجانين حتى تتجاهلو بطشنا ! أم أنكم نسيتم ذلك الكثير الذي لاقيتموه من أيدينا …؟
ربما تستطيعون أن تصلوا إلى ممو ، ولكن بعد أن نحقن ما حوله بلجة من دمائكم ، وتتخذوا إليه جسرا من مئات منكم ..‘‘
ثم دار رأسه نحو الأمير ، يرمقه بطرف عينه قائلا :
’’ أما مولانا الامير .. فله إذا شاء التصرف أن يتصرف فيما يريد بنفسه .. فإن له في أيدينا قيودا من نعمته وسلطانه … قد لا يكون من المناسب أن ننكرها ..‘‘
وبعد قليل نهض الأمير بنفسه إلى ممو فقيد يديه ، وأمر به إلى السجن ..! وسكت تاج الدين وشقيقاه وقد تجرعوا غصة السم نزل إلى قلوبهم . ولكنهم لم يجدوا من الحكمة – وقد نزل الامير في حكمه من القتل إلى الحبس – أن يلحوا في العناد مرة واحدة ورأوا أن يرجئوا محاولة العفو عنه إلى وقت أخر يكون الأمير فيه أهدأ ثورة وأخف غضبا .
ثم فض المجلس ، وانصرف الناس في وجوم و حزن . بينما كان ممو يتخذ طريقه إلى قاع السجن !

صفاء الروح

حكم الفلك أزلي قديم ، وإصرار الدهر قضاء لا يتراجع ، وأمر الله قدر لا بد له من نفاذ .
فماذا يغني التأوه ولضجر ، وأي فائدة يجني الألم والتوجه ، وأي نتيجة تأتي بها القوة والانفعال إذا كانت سطور القضاء حاكمة بالبؤس والسجن والحرمان ؟!
على أن السجن الذي انتهى القدر بممو إليه لم يكن كأي سجن آخر ، وإنما كان مغارة ممتدة في قاع الأرض ، ضيقة الأعلى متسعة الأسفل لا يكاد يمتد شيء من ضياء الدنيا أو نور الشمس إلى داخلها ، اللهم إلا من تلك الكوة العليا ، التي هي وحدها الباب والنافذة والمنور وكل شيء .
وأنزل ممو إلى قاع الزنزانة التي استقبلته مظلمة موحشة خالية من أي أحد غيره . فالتف حول عينيه الظلام الذي داهمه ولم يعد يبصرشيئا سوى أشبح السواد المدلهمة المطبقة من حوله ، فجمد قليلا في مكانه بين ذلك الظلام الدامس ، وراح يخطو في حذر متلمسا بيديه الهواء ، إلى أن مسّتا الزنزانة وهناك وقف مستندا إليه ، وقد ترنح بين أمواج من الذكريات أخذت تنبعث من نفسه البائسة …
تذكر شبابه الغض وقوته النابضة … عزته وبأسه .. إذ كان هو وتاج الدين من أسعد الناس ، ولم يكن قد مس قلبيهما شيء من هذه الآلام . ثم تذكر ميلاد هذا الشقاء في قلبه ، ويومه البهيج المرح الذي قضياه معا ، والسكرة التي غشيتهما في مسائه …
وتذكر الآلام .. والآمال التي ترعرعت في نفسه ، والتي شبت وأخذت تزدهر في قلبه أيام فرح تاج الدين وليالي عرسه وكيف كان يمني نفسه بمثل تلك البهجة والأفراح في عرسه هو أيضا … وتذكر بعد ذلك خيبة آماله ، وتصدع قلبه .. قلبه الذي لم يرحمه أحد ، ولم يعطف عليه إنسان ، وراح يستعرض الليالي التي أحياها بالزفرات على ضفاف دجلة ، حيث لا مخلوق يبصره أو يشعر به ، والدموع التي قرحت عينيه ، وروى بها الآكام والسفوح ، حيث لم تكن هناك أي عين أخرى تواسيه بدمعة ! ثم تلك السويعات الجميلة … التي كانت كل أيام سعادته من دنياه ، والتي شهدتها نسمات ذلك الروض وورده . ثم تصور كيف عاد الليل بعد ذلك إلى قلبه فأغطش .. وراح يكابد ألوان الشقاء الذي كتبه له الدهر : هذا الظلم له من الناس دون أي جريرة أو موبقة ارتكبها .. افتراآتهم عليه ، واستعانتهم بدموعه وآلامه .. وضع شباك المكر والفتنة في طريق سعادته .. وأخيرا هذا الغضب عليه من الأمير .. الأمير الذي لم يترك له فوق بؤسه وحرمانه حتى حريته التي كان يهيم بها على وجهه ، ليسري عن نفسه بمظاهر الطبيعة التي كانت الشيء الوحيد الذي له أن يشارك الناس في رؤيته والاستمتاع به . لقد أبى إلا أن يعصب عينيه بهذا الظلام حتى لا يرى شيئا من ذلك ، وأبى إلا أن يحبسه في هذه الموحشة حتى لا يجد الأنس إلى قلبه أي سبيل .
وما إن راح يستعرض في فكره كل هذا .. حتى رق قلبه عليه ، وأدركته الرحمة لنفسه ، وراح يبلل ثرى تلك الأرض بدموع أليمة يبكي فيها عمره الذي ضاع ، وأمله الذي خاب ، وقلبه الدامي الذي سحقته الأقدام .
ثم التفت حوله ، وقد أخذت أطراف الزنزانة وجدرانها السود تلوح لعينيه ، وترائت تحت بصره أرضها العفراء اليابسة خالية من أي شيء يستند إليه الجنب ، إلا دكة ترابية صغيرة في ناحية منها ، يمتد عليها بساط مهلهل .
وأدار بصره الذي غشاه الدمع في سائر تلك الأطراف ، كأنما يبحث عن أي شيء يتخيل فيه الرحمة والعطف ، ليتعلق به ويبثه كربه ولكن الزنزانة السوداء قطعة واحدة صماء ، لا تسمع صوتا ولا تفهم نحيبا . فانقطع من نفسه إذ ذاك آخر خيط من أنسه بالدنيا ومن فيها ، ولم يجد أمامه إلا السماء .. السماء التي هي وحدها مثابة المكروبين ومآل البائسين والمظلومين . فرفع رأسه ونظر بعينيه إلى الأعلى نظرة بعث فيها كل آماله وزفراته المتجمعة بين جنبيه قائلا :
’’ رباه ألست تبصرني ..؟
ألست تبصرني ، وأنا عبدك الضعيف ، كيف أذوب بين كل هذه الآلام التي لا أطيقها …؟
رباه إن عبيدك في الأرض لم يرقوا لحالي ولتعاستي وشقائي ، وإنما سحقوا جراحي ، كما ترى ، في التراب ، وحرموني حتى من الزاد الذي أتبلغ به في طريق فنائي . فارحمني أنت يا رب ، فوحقك لن أتوسل بعد اليوم إلى غيرك ، ولن أسكب دموعي إلا بين يديك ، ولن أتذلل إلا لجلالتك …‘‘
ولم يطبق جفنيه على هذه النظرة والكلمات التي قالها إلا وقد سرت إلى نفسه روح جديدة ، أخذت تمتد من وراء ضلوعه كما يمتد لسان من النور المتوهج بين تلافيف الظلام ، ولمست قلبه لمسة بعثت فيه بردا من الراحة والهدوء ، واضمحلت تلك الوحشة القائمة من حوله في روح من الأنس الغريب ..
وما إن شعر بكل هذا في نفسه ومن حوله حتى عاد فرفع رأسه وقد قام مستندا إلى جدار الزنزانة ، يناجي الله سبحانه قائلا :
’’ إلهي ، لقد اهتديت إلى لطفك إذ فقدت الدنيا كل أسبابها وآمالها ، فوحق وجهك لن أحيد عن بابك بعد اليوم وإن عادت إلي الدنيا بكل ما فيها . فليظلمني الظالمون ، وليكد من أجلي الكائدون ، وليشعلوا قلبي بما شاؤوا من نارهم ، وليحبسوني في الظلمات وفي أوكار الوحوش . فوحق ربوبيتك التي لم أبرح ساجدا لها ، إن ذلك كله لا يضيرني في شيء ولا يقطع قلبي أوهى خيط من خيوط آماله .
ما أعذب إلى نفسي الصبر .. ما دمت أستمتع بهديك الذي يشع في روحي ، وما أسهل هذا الظلام ما دمت أجد بين ضلوعي نورك الذي يؤنسني ، وما أهنأ إلى قلبي التعذيب ما دمت محاطا بخفّي رحمتك ولطفك .
أما اليأس .. فهل للدنيا كلها أن تجعل لليأس سبيلا إلى قلبي ؟ّ أقسم بالقدّ الذي سبيتني باعتداله ، أقسم باللحظ التي أسكرتني بجمله ، أقسم بالنور الذي أضرمته علي نارا ، أقسم بالحسن الذي لم أذق منه إلا علقما وصابا ، أقسم بكل ذلك أن هذا العذاب مهما أفقدني الهدوء والقرار ، فإنه لن يفقدني الأمل في الوصال حتى ولو أسدلوا بيني و بينه حجاب الموت ! فما أجمل أن يسعد بمناه في ظل خلدك وتحت جناح لطفك .
ولماذا لن يسعد …؟ وهما وحقك يا مولاي ، كما تعلم ، روحان طاهرتان عفيفتان ، لم يتزودا من هذه الدنيا إلا بسعيرها وبؤسها ، تقدمان إلى رحاب الملك الخبير اللطف ، ذي الرحمة الواسعة ، والعدل الشامل .
واشوقاه يا مولاي إلى ذلك اليوم …! إذ نمضي إلى رحابك ، فتمسح بيمين لطفك عن كلينا مدامع الظالمين ، وتضمنا بين ذراعي رحمتك ، آمنين مقبولين ..‘‘
وهكذا أخذ يهبط إلى قلب ممو ، وهو في قعر تلك الموحشة ، أنس إلهي يحف به ويخفف من آلامه وأحزانه ، بعد أن انقطعت صلته من المخلوقين واستبد به اليأس منهم . وبمقدار انصرافه ويأسه من الدنيا ومن فيها أخذت تعظم صلته بالله تعالى وتتعلق آماله به وحده . فاتخذ من مغارته تلك صومعة لا يفتأ يناجي فيها الله تعالى ، ويتعبده لياليه وأيامه . يدخل إليه حارسه لإحضار طعامه إليه فلا يجده إلا قائما في صلاة أو ساجدا في مناجاة …
وأخذ جسمه يهبط إلى الرقة والذوبان بينما أخذت روحه تشب نحو القوة والطوق . وكلما راح منه الجسم نحو الرقة والإضمحلال وانطلقت روحه نحو الإنتعاش والقوة ، ازداد غيبوبة عن الدنيا وأسبابها وتعلقاً بالسماء ومعانيها إلى أن غذا ذلك الهيكل الجسمي منه لعبة في يد الروح تصرفه كما تشاء ، وبدأت المادة تضمحل في سلطانها فلم يعد للزفرات في الجسم معناها المحرق ، ولا لسعير الفراق في الكبد أثره المذيب .
وبدأت الروح ترقب في شوق ولهفة شيئا واحدا .. وهو الإنطلاق لا من زنزانة السجن إلى الدنيا ، ولكن من قفص ذلك الجسم إلى الرحاب التي هيئت لها …

اليأس

لم تكن زين قبل أن يصير ممو إلى هذه النهاية ، يائسة من السعادة .. رغم ما كانت تكابده من الآلام . فقد كان لها أمل كبير في أن تنال هي الأخرى مع ممو آمال قلبها ، كما نالت أختها ستي مع تاج الدين . ولكن ما أن علمت بذلك العقاب الشديد الذي أنزله الأمير بممو .. ذلك العقاب الذي جاء فدية له من القتل ! حتى بتر من قلبه كل ما كان يمتد فيه من عروق الأمل ، وأخذ فؤادها ينزف باللهب وخنقتها العبرات ، وضاقت رحاب الدنيا أمام عينيها . و كأنما أطبق عليها ذلك القصر ونعيمه والتصق بخناقها ، فلم تعد تشعر من حولها حتى بالهواء الذي تملأ به رئتيها . وتجمعت على مشاعرها آلام عدة .. أقلها يذيب النفس .
كانت تتوجع مرة لمصير ممو وتبكي وحشته وانفراده في ذلك البئر .. وتتألم أخرى من أنه ربما يتخيل وهو في عذابه ذالك أنها سعيدة في رحاب هذا الصرح ، تتقلب في نعيم الحرية والإنطلاق . ثم تتألم لنفسها ، ولغروب آمالها ، ومن أنها لم تعد تبصر بقية أيام عمرها أي بريق من الرجاء والأمل . ثم تعود فتتقلب بين جمر من زفرات شوقها ولواعج حبها .وكثيرا ما كان يمتزج في آلامها هذه معنى الحيرة والتعجب من كل هذا السواد والبؤس في حظها ، فتتسائل قائلة :
’’ أي حكمة ترى يا إلهي تكمن وراء كل هذا الوابل الذي أمطرته على أيامي من التعاسة والشقاء …؟
مرة واحدة .. لم تدر هذا الفلك نحو إسعادي وتفريح قلبي . يوما واحدا .. لم تدع هذه الدنيا تتألق أيضا في عيني ؟!
أسكرت أولا ذلك المسكين ، وطرحته في وهج من حبي . ثم عكست ذلك الوهج إلى قلبي أيضا ، وتركته يكابد حره ولظاه . أسرجت بيني وبينه الضياء قليلا ، حتى إذ لمحني ولمحته ، وهفا إلي وانصرفت إليه ، أسرعت فأطفأت السراج وأسدلت بيني وبينه الظلام وتركت كلا ما ينطوي على ناره ، وينفرد لشوقه وحرمانه . أقمت من حول أعيننا أفراح الناس وأعراسهم ، بينما تركت وراء جوانحنا مأتما من الأحزان والآلام .
فماذا جنيت يا إلهي …؟ بل ماذا جنى ذلك المسكين الذي أرسلته .. ليبحث عن آماله في ظلام المقام في باطن الأرض ..؟
ولكن …
لماذا أعتب .. ولمَ أقول هذا ؟ فقد علمت أن هذه قسمتي من الأزل ، وقد رضيت بها قبل اليوم . وعليّ أن أرضاها اليوم أيضا صابرة شاكرة .
غفارانك اللهم … لك مني الرضى والقبول بكل ما حكمت به عليّ أقدارك …‘‘
ويتراءى أما عينيها شبح ممو ، وكأنما ينظر إليها من وراء سجنه ، وهي طليقة في جنبات القصر ، بعين كاسفة ووجه متألم ، فيثير ذلك لواعجها ، وتحدثه قائلة :
’’ أو تحسب يا ممو أن رحب هذا القصر أوسع علي من مضيق سجنك ؟ أو أن إشراق هذه الدنيا من حولي أقل سوادا في ناظري من ظلمتك التي أنت فيها ؟ أو أن شيئا من النعيم الذي حولي يسليني عنك ويشغلني ؟
لا والله يا ممو … أقسم لك وأنت قبلة فؤادي الولهان ، وأمل روحي الهائمة – أن سعة آفاق الدنيا أماي لا تزيدني إلا حسرة وكربا ، وأن إشراق هذا القصر من حولي لا يبصرني إلا بسواد حظي الحالك ..
نعيمي .. الزفرات التي تشق صدري ، وطعامي .. السُعار الذي يمزق أحشائي ، وشرابي الدموع التي تذيب كبدي . أما فراشي ، فهو ذلك القتاد الذي يظل يدمي مني سويداء القلب ، ليست لي عين يفرغ منها الدمع لتغمض ، ولا شعور تهدأ منه الثورة ليستكين .
هذه حالتي يا ممو وأنا في رحاب هذا القصر ، فقل لي كيف حالك وأنت في غياهب ذلك السجن ..؟
قل لي من هو أنيسك في ذلك الظلام ؟ ومن هو جليسك الذي تشكو إليه الآلام ؟ كيف تقضي الليل ، وأنت لا ترى سمائك كوكبا يواسيك أو يطل عليك ؟! وكيف يمر نهارك دون أن ترى من حولك أي إنسان يحدثك ، أو تمر بك نسمة تنعشك ، أو تبصر أمامك غصنا أو طائرا يسليك ؟
آه لو كان لروحي التي بين جنبي أن تنطلق مرة إلى ذلك الغور لتبصر ذلك المسكين ، وتعود إلي بالخبر عن حالته وصحته وجسمه . أخشى أن يكون الجزع قد استبد به والآلام استحكمت في نفسه فيكون في ذلك المكان قضاؤه .
بل آه لو امتد غضب هذا الأمير إلي أيضا ، فاثقلني بالسلاسل والأغلال وزجني معه في ذلك الظلام . إذا والله لاطلقني من سجن هذه الدنيا إلى رحب الجنان ، وافلتني من قيود هذه النعمة التي حطمتني إلى حيث أستطيع أن أرى فيه سعادتي ، وأداوي ذلك القلب الذي لم يرق لحاله أحد .
ما أشد ظلام هذا اليأس في عيني ، وما أشد خوفي من أن يكون الدهر قد انطوى على آخر لقاء بيني وبين هذا إنسان قلبي ، وقرر أن يحرمني حتى من مشاهدته والإطمئنان على حاله ‘‘
وهكذا أخذت زين تفقد أخيرا بقية ما في جسمها من حول وقوة ، وعافت كل طعام وشراب ، وأضناها الهزال واليأس إلى أن غدت نهبة للعلل والأمراض .
ولم يعد يخفى على أخيها ما تكابده من ألم وحب شديد لممو ولكنه مع ذلك ظل متجاهلا أمرها غير مكترث بحالها فقد كانت سكرة الغيرة والحمية في نفسه قد غشت على عقله وعاطفته حيال هذين العاشقين ، تلك السكرة التي نفخها في رأسه حاجبه الخبيث ، إذ رماهما له بتهم باطلة ، وأدخله إلى وهمه أن ممو لم يعد يجد مانعا من أن يلوث سمعة قصره بمعاني العشق والغرام بأخته بعد أن رفض أن يزوجه بها .
وانقطع الأمير عن الإلتفات إلى أخته الصغيرة مرة واحدة لا يسأل عنها بكلمة ، ولا يرحمها بنظرة ، بل ولا يحاول أن يمر ولو مرة بجناحها من القصر ليعلم ما حالها وما الذي انتهى إليه أمرها .

الثورة

انقضى عام كامل على ممو وهو لا يزال ملقى في سجنه ، ورفيقة شقائه لا تزال تعاني كربها وعلل نفسها وجسمها . وأصدقاؤهما لا يجلو عنهم ذاك الحزن والهم من أجلهما ، لا سيما تاج الدين وستي ، ذاك لا يبارح خياله ممو وهو قابع في وحشة الإنفراد يكابد هذه النهاية التي حكم بها القضاء بعد كل حرمانه وشقائه . وتلك لا تفتأ تتوجع لحالة أختها زين التي تدهورت صحتها وطرحها الضنى والعذاب ، حتى إنها عافت واستثقلت كل مظاهر نعيمها وسعادتها التي آتاها الدهر بعد أن عافت أختها من كل ذلك ونكبها هذه النكبة المريرة . وقد بائت كل محاولات أولئك الأصدقاء لإطلاق سراح ممو والعفو عنه بالخيبة ، فلم يكن أحد ليستطيع أن يستدر بشكل ما عطف الأمير وشفقته عليه . 
وفي ليلة صامتة هادئة … كان أصدقاء ممو كلهم مجتمعين في دار تاج الدين ، تلك الدار التي يعرف الناظر إليها أنها كانت في يوم ما قصرا رائعا .. يتبادلون المشورة والآراء لإيجاد حل حاسم لهذه المشكلة . وقد بلغ بهم الكرب أقصاه ، وانتهى الصبر فيهم إلى آخر مرحلة . 
وارتأى بعضهم أن يغدو جميعا مع صبح اليوم التالي إلى الأمير لآخر مرة .. يستشفعونه في ممو ، ويستدرون عطفه .. و يلحون في الرجاء بإطلاقه .. فإن استجاب فذاك وإلا عادوا فقرروا سبيلا آخر أصلب من هذا … 
ولكن عارفاً لم يعجبه الرأي وقال : 
’’ إن من الضعف والخور بعد كل الذي عرضناه من رجاء ، وتصنعناه من ذل – أن نعود إلى هذا الإسلوب بعينيه . 
إن إخراج ممو من السجن لم يعد يمكن عن طريق الرجاء والكلام في الدواوين ، وإنما يخرجه اليوم شيء واحد ، هو هذه السواعد التي نملكها .. فعلينا أن نتركها هي اليوم ترجو وتتكلم ، لا في المجالس والدواوين ولكن في الفلاة والميادين …! 
علينا إذا أردنا أن يعود ممو إلينا أن نبادر مع صبح الغد فنرتدي دروعنا ، ونشتمل سيوفنا ، ثم يستوي كل منا على جواده ، فننطلق بالحراب والسنان نهزها ، ونستدر بها وحدها عطف الأمير ، ليطلق سراح ممو . فإن رقق ذلك من قلبه وقضى مرادنا فذاك .. وإلا أعلنا حربا مستعرة هوجاء ، عليه وعلى كل من ستثكله أمه من اتباعه وبطانته ، وعلى رأسهم كلبه اللئيم الحقير . 
ولتنفتل رحى الآجال إذ ذاك ، تعصف بالرؤوس ، ولتصبح ’’ بوطان ‘‘ حلبة لرقصة الموت ، وليستمتع أهلها بلحن الأتراس والسيوف . فإما شققنا غبار ذلك كله إلى ممو فأنقذناه برماحنا وسواعدنا ، وإما لحقنا به وعانقنا معه الموت والردى .‘‘ 
وما إن أبدى هذا الرأي ، وأتم كلامه الملتهب حتى أثار حماسة الجالسين ، وأشعل دمائهم ، وأجمعوا على أن يتلاقوا جميعا في صبح اليوم التالي في عدة الحرب ليشنوها غارة على الأمير …! 
وفي صبح ذلك اليوم فوجئ أهل الجزيرة من هؤلاء الأشقاء الثلاثة بأمر لم يكونوا يحسبوا له حسابا .وطاف هؤلاء الثلاثة ومن معهم من الأصدقاء والأصحاب على أهلهم وذويهم – وقد حزموا أمرهم على الحرب ، ولبسوا لها لباسها ، وأعدوا لها عدتها – يستسمحونهم ويودعونهم . 
ثم انطلقوا في خيلهم ورجلهم ، وقد اجتمع منهم عدد كبير ، يؤمون قصرالأمير .. ولما صاروا على مقربة منه اختارتاج الدين ممن معه شيخا مسنا ، فبعثه رسولا إلى الأمير ، يخبره بالشأن .. وأمره أن يقول ما يلي : 
’’ أيها الأمير ، هؤلاء الأخوة الأربعة – ممو وتاج الدين وعارف وجكو – لست تجهل أن أحدا منهم لم يتهاون يوما ما في خدمتك ، ولم يتبدل منه الإخلاص في محبتك . فبأي حق وإنصاف تمر سنة كاملة ، وأنت حابس عنهم أعز أخ بينهم .. وملق به في ذلك القبر .. ليس له هناك من راع ولا صاحب ؟! 
أيقظت عليهم شماتة الحساد ، وأقمت من حولهم هموم الأصدقاء والأصحاب ، وتنكرت لهم ، فلم تستمع منهم إلى استعطاف أو رجاء ! 
ما هو ذنب ممو …؟ 
أليس كل ذنبه الذي جعله يستحق منكم هذا العقاب أنه عاشق ….؟ 
ولكن ماذا يصنع .. وإن للعشق سلطانا أقوى من سلطانك ؟ فهلاّ انتقمت إن كنت ذا طول وطود من ذلك السلطان الذي عاندك فاسترقّه – عوضا عن أن تنتقم من هذا البريء الضعيف الذي ليس له من الأمر شيء ..؟! 
أيها الأمير : إن هؤلاء الأخوة الأربعة ليس أحد يجهل أنهم أركان أربعة لسعادتك وسلطانك .. وهم اليوم يتقدمون إلى رحابكم باسم الوفاء والعدل طالبين لآخر مرة إطلاق سراح رابعهم من ذلك السجن . وإلا فإن أحداً من البقية .. لا يجد في نفسه ضرورة إلى الحياة بعد اليوم …‘‘ 
وراح الشيخ .. واستأذن على الأمير بعد أن رآه بكر وعرف المسألة كلها .. فأبلغه هذه الرسالة كما حمّله إياها تاج الدين ، ووقف ينتظر الجواب . فأخذ الأمير يفكر وقد بدا على ملامحه الحذر والتريث . ثم نظر إلى الشيخ قائلا وقد أسرّ في نفسه أمرا : 
’’ أيها الشيخ . عد إلى هؤلاء الذين أرسلوك ، فقل لهم : من أين ارتكزت في أذهانهم هذه الأوهام الفاسدة حتى تقوم في رؤوسهم هذه الثورة التي لا داعي لها ..؟ وليحدث كل ما يفرض أن يكون ، فهل يعقل أن نفوت ونترك أصدقائنا ، وأن نتخلى عن تقديرهم ومحبتهم ، سيما وإن لهم عندنا خدمات وأيادي لا تنسى ، أما ممو فإنا رأينا أن نفعل به ذلك تأديبا وإيقافا له عند حده ، وها أنا اليوم سأجعل كلا من ممو وزين فداء لتاج الدين وأخويه ، فليطب خاطرهم . بل وسأهبها لهم ليتحققوا من إخلاصنا في حبهم وتقديرهم ..‘‘ 
فتهللت أساسير الشيخ ، وانحنى شاكرا بين يديه ، ثم انصرف عائدا إلى القوم الذين كانوا في انتظاره . وما إن أخبرتهم بما قاله الأمير حتى سري عنهم وخمدت ثورتهم وتفرقوا عائدين إلى دورهم في انتظار الابتهاج بإطلاق سراح ممو وتزويجه من حبيبته زين .

الخديعة

لم يكد ذلك الشيخ يخرج من القصر حتى أخذ الأمير يفكر في الموضوع بجد …وقد بدا على تقاسيم وجهه وفي بريق عينيه الاهتمام الشديد بالأمر ! وأخذ ذهنه يطوف حول إيجاد أي خدعة لأولئك الثائرين في وجهه . 
أما الحديث الذي قاله للشيخ ، فلم يكن شيء منه صادرا عن أعماق نفسه ، وإنما أرسله مجاملة فقط .. لتخمد ثورتهم ، ويرجعوا عما عزموا عليه من إثارة الفتنة والحرب . إذ كان يعلم أن قيام ثورة عليه من قبل تاج الدين وشقيقيه لن يكون في صالحه . لا سيما وإن لهم شيعة وأتباعا كثرا في الجزيرة ولذلك ألقى إليهم بهذا الوعد ، ليلهيهم ويتراجعوا عما أجمعوا رأيهم عليه ، بينما يصل هو في تفكيره إلى حيلة يسبقهم بها إلى تدبير الأمر كما يشاء ، ويقطع بها عليهم طريق الثورة والقوة . 
ودخل عليه الحاجب بكر ، فألم بالقلق في نفسه ، ولم يخف عليه – وقد كان تسمع إلى كل ما قاله الرسول وأجابه به الأمير – أن الأمير لك يكن مخلصا للرسول فيما قدمه إليه من وعود ، وأنع يحوم بفكره حول أي وسيلة لإنقاذ الموقف ، وحسم هذا الأمر … 
فأخذ يقول وهو يتشاغل بتنظيم جوانب الديوان وإصلاحه : 
’’ لقد كنت والله خائفا منذ أمد طويل أن ينتهز الفرصة هؤلاء القوم ، ويتشبثوا بأي سبب مصطنع لإثارة الفتن والقلائل حول هذا القصر . وما مرادهم والله ، كما علمت من أول الأمر ، إلا أن يصلوا بصاحبهم تاج الدين إلى الحلم الذي لا يزال جاثما في أوهام رؤوسهم …!‘‘ 
ثم التفت إلى الأمير فقال : 
’’ ولكن لا داعي إلى أن يحسب مولاي لهم كل هذا الشأن ، وأن يعيرهم من نفسه القلق والاهتمام … ففي استطاعته إذا شاء أن يتخلص من كل من تاج الدين وشقيقيه بأيسر الطرق … 
أما ممو فإن الوسيلة إلى قتله أسهل ما يكون ، ولن يكلف ذلك سوى أن يتظاهر مولاي لزين بأنه نادم .. وأنه عقد العزم على أن يعفو عن ممو ويزوجها به . ثم يرسلها إلى زنزانة سجنه لتتولى هي بنفسها إطلاق سراحه ، فقد علمت مولاي بأنه يعشقها عشقا شديدا ، وأغلب الظن أنه عندما يفاجأ برؤيتها بعد كل غيابه عنها وشوقه إليها واليأس الذي دب في نفسه ، سيخر صريعا وقد فارقته الروح . 
أما تاج الدين وشقيقاه فمن السهولة بمكان – إذا شاء مولاي وترك الأمر لي – أن أتقدم إليهم بكؤوس من الشراب المسموم …‘‘ 
ورغم أن الأمير كان يتظاهر كالمتشاغل عن حديثه ، إلا أنه كان ملقيا إليه كل باله ، يتتبع حديثه ورأيه باهتمام . فقد كان كل مراده أن يعثر في أقرب وقت على أي حل أو طريقة يتفادى بها ثورة تاج الدين وصحبه ، دون أن ينزل عند طلبهم أو مرادهم . 
على أد ذلك لم يمنعه من أن يتضايق من بكر وفظاظة طبعه الذي يأبى إلا أن يشرئب متطاولا إلى هذه الامور التي لا تعنيه في قليل أو كثير ، فقد أصبح يتراءى لعينيه في وجهه الذي يظل متمسكنا في خبث ، كلما لمحه ، مصدر هذه الفتنة التي أخذت حيزا كبيرا من تفكيره ، بقطع النظر عن أنه أكان صادقا ومخلصا له في إثارتها ، أم مفتريا لا يهمه شيء سوى إيقاد نارها واحتراق الأبرياء في لظاها . وحسب هذا في الواقع حاملا للأمير على كراهيته والإشمئزاز من منظره وكلامه الذي لا يبعث إلا التشاؤم . بل ربما كان يدفعه هذا إلى أن يجازف بطرده رغم حاجته إلى حاجب في مثل خبثه ودهائه – لو لم يكن ذلك في هذا الوقت خاصة قد يثير لدى تاج الدين ظنونا بالأمير وبأن كل هذا الذي حدث إنما كان بمكر وافتراء من ذلك الحاجب الذي استطاع أن يغرر بالأمير ويخدعه . 
ثم إنه لم يعلق شيئا على كلام بكر الذي ظل متشاغلا من حوله في انتظار أن يجيبه على رأيه الذي أبداه ، بأي كلمة أكثر من أنه أمره بالخروج وإغلاق الباب ، وبأن لا يدع أحدا يدخل عليه في ذلك اليوم . 
وظل الأمير بياض نهاره ذلك لا يُرى إلا مختليا يفكر .. أما في الليل فقد استبد به الأرق ، وظل أيضا ساردا في التفكير والإطراق . 
أخذ يعرض على ذهنه إلى جانب ما علق برأسه من ذلك الرأي الذي أبداه بكر آراءً كثيرة ، ولكن لم يكن من بينها أبدا فكرة العفو عن ممو وتزويجه من أخته . إذ كان هذا بعيدا جدا خصوصا وقد تتابعت عليه عوامل جعلته كالمستحيل . فقد كان أول عامل هو ما بلغ الأمير أن تاج الدين راح يستعمل نفوذه الخاص في تزويحها من ممو في الخفاء دون أن يعلمه بذلك ، وهو العامل الذي ألهب غضبه إذ ذاك وجعله يقسم أن يحول دون تحقيق ذلك . والعامل الثاني هو ما شاع أخيرا بين الناس ونقله بكر إليه من غرام ممو الشديد بأخته ، ومن زائدات أخرى غير لائقة انتهت إلى مسامعه . والعامل الأخير الذي جعله اليوم يزداد قسوة وتمسكا برأيه ، هو مجيء تاج الدين وقومه في هذه الثورة يطالبون بالعفو عن صاحبهم بالقوة والتهديد ! 
وأما رأي بكر فقد كان الأمير يحسب للاقدام على تحقيقه حسابا كبيرا ، ولا يكاد يرى وسيلة معقولة إليه ، إذ ليس من السهل أبدا القضاء على تاج الدين وشقيقيه بالسم مثلا كما يقول بكر ، ولا يضمن أن تأتي النتيجة لذلك هادئة سليمة ، سيما وإن من ورائهم شيعة وأتباعا سيتساءلون عن السر وسيظلون يبحثون عن الحقيقة التي لا يبعد أن تنكشف لهم أخيرا . 
ثم أنها حيلة بشعة جدا ، لا يصلح أن تصدر إلا من ماكر دنئ من أمقال بكر … وإن دلت على شيء من الأمير فإنما تدل على الجبن الذي يمنع من المجابهة والمبارزة وجها لوجه ، وعلى أنه ليس في يديه من وسائل القوة إلا هذه الخدعة التي هي سلاح الجبناء والضعفاء ، وما أبعدهما عن الأمير زين الدين من أن يكون كذلك ، وأن ينزل عند شيء من هذا الضعف . وأما الخطوة الأولى من رأي بكر وهي ما رآه من وسيلة للتخلص من ممو ، فقد كان يطمئن إليها قلب الأمير ، لو صح أن رؤيته لأخته على ذلك الشكل ستعدمه الحياة وتجعله يفارق الروح …! ولا شك أن الأمر إذا تم على هذا النحو فهي وسيلة محكمة تماما .. وهي الخطوة الأولى والأخيرة ، وتنتهي المشكلة بعدها .. 
وعلى كل فإن الأمير لم يسلم عينيه للرقاد في تلك الليلة إلا بعد أن عقد العزم لحل هذه المشكلة على أمر … 

النّدم

وفي صباح اليوم التالي كان الأمير قد اقتنع بجزء من مشورة بكر ، ورأى أنه ليس هنالك ، مبدئيا ، ما هو أولى منها ، فإذا لم تنتج الفائدة المتوقعة كان هنالك حينئذ مجال لرأي آخر . وراح ينفذ أولى خطوات تفكير ذلك الخبيث . 
خرج من الديوان … وصعد متجها إلى غرفة أخته زين ، تلك الغرفة التي غبر دهرا لم يدخلها أو يمر بها أو يكترث بمن فيها . 
وانتهى إلى بابها المغلق .. فوقف عنده قليلا كأنما يستجمع هدوءه ، ثم دفعه في رفق ودخل … 
دخل .. فوجد نفسه في غرفة ساكنة واجمة ، قد أغلق كل نوافذها وكُواها ، فبدت مظلمة قاتمة . وأخذ ليجيل النظر في أطرافها ، إلا أن عينيه سرعانما انصرفت إلى قامة فتاة هبت مترنحة تحاول الوقوف والقيام على قدميها . 
فدنا نحوها ، وراح يقلب عينيه في شكلها الذاوي ومظهرها الباعث للرحمة والألم .. وهي واقفة أمامه في جهد ، يتمايل بقوامها الضعف والهزال ! 
وأخذت نظراته كأنما تتسائل في تأثر واستغراب : أهذه هي أختي زين التي كنت أعرفها أروع ما تكون صحة وجسما ، وأجمل ما تكون إشراقا وفتنة ؟! 
أكل ذلك انتهى منها وغاب .. وأنا لا أشعر ..؟ 
ثم جلس إلى جانبها في هدوء . وأخذ يجيل نظره فيما حوله في صمت ، وقد شعر بمعاني الأسى والحزن ممتدة إلى كل أطراف الغرفة وما فيها . وما ثم شيء من فرش والمقاعد التي من حولها والستر المسدلة أمامها ، والحاجات المتفرقة إلى جوانبها ، إلا وكأنما قد لمسه الحزن والكرب لمسة واضحة من أجل هذه البائسة المسكينة ! 
ثم عاد – وقد سرى أثر كبير من ذلك الحزن إلى نفسه أيضا – فالتفت إلى أخته ، وقد أطرقت برأسها إلى الأرض في وجوم وذهول . فمد يمينه برفق إلى أسفل وجهها ، ولارفعه إلى سمت عينيه يتأمل شحوبه وذبول ملامحه . 
والتقت عيناه بنظراتها .. نظرات كسيرة من عينين ذابلتين قرحهما الدمع ، تشع نحوه في ارتجاف ، كأنما تستعطفه قائلة : 
’’ كيف هان عليك يا أخي … وأنا شقيقة قلبك أن تقسو علي كل هذا ، وتباعد عن فمي كأس سعادتي وهنائي وتحطمها في الأرض ؟ 
كيف استسغت يا أخي .. وأنا أختك التي طالما أسعدتني أفراحك .. أن تحرق ماكان لي من شباب .. في ضرام الشقاء والحرمان ، وتتركني أتأوه في هذا القصر من غير راحم ، وأستصرخ من غير مجيب ؟! 
ماذا جنيت يا أخي حتى عاقبتني بكل هذا ؟ 
والله إني لم أطعم من حبي إلا العلقم الأليم . والله إني لم أخنك يوما ما في سر ولا جهر . والله إن روحي لم تدنسها أو تعلق بها أي شائبة مما قد تظن ..‘‘ 
وما إن تلاقت عينا الأمير مع هذه النظرات ، وتأمل ما كانت توحي به من هذا الاستعطاف حتى سرت رعشة من الرقة والرحمة في سائر مشاعره ، وامتدت إلى سويداء قلبه ، فنفضته نفضة أليمة تساقط منها كل ما تغلف به من قسوة وغضب وبدأ بخفق بالرحمة ، ويجيش ندامة وحسرة . وقال وهو لا يكاد يملك عينيه : 
لقد ظلمتك والله يا أختاه .. إي والله ، ولقد قسوت عليك قسوة ما أظن أن أي توبة أو ندامة يمكن أن تغفر لي إثمها ..! 
ماذا دهاني يا زين …؟ وأين فقدت قلبي وكبدي ، حتى فعلت بك كل هذا …؟ 
أكل هذا الضنى الذي على وجهك ، والنحول والضعف الشديد في جسمك هو من آثار قسوتي …؟ قسوة أخيك الشقي التعس ..؟ إن نار الندم يا زين تأكل قلبي .. إن ألم الحسرة ليشق كبدي . 
تعالي .. يا شقيقتي .. حدثيني ، أوَلا أستطيع اليوم أن أكفّر ..؟ أوَلا أقدر أن أعود فأسعى لاسترجاع سعادتك وشباب جمالك ..؟ أو لست أزال قادرا أن أتدارك الوقت ..؟‘‘ 
وما كادت هذه الكلمات من الأمير تطرق سمع المسكينة التي طوت أيام عمرها في مكابدة البؤس وآلامه ، دون أن يرق لها أو يكترث بها ، حتى أدركت قلبها رقة شديدة لحالها ، وقامت بين جوانحها عاصفة كبيرة من آلام وزفرات ، وكان قد بلغ بها الضعف والرقة إلى حيث لم تعد تتحمل كل ذلك ، فاندفعت من صدرها موجة كبيرة من الدماء ، وانطلقت من حلقها مرة واحدة متدفقة إلى الأرض ، بينما راحت عي في غيبوبة كاملة عن نفسها وكل ما حولها . 
فجن جنون الأمير من هذا المنظر الرهيب . وأخذ سعير الندامة والعطف الذي راح أوانه يكوي مشاعره ويأكل أحشاءه و قلبه . وفقد كل توازنه ووعيه . وجلس إلى جانب أخته الممتدة بين دمائها يصرخ ويبكي لاطما نفسه كالنساء . 
وفي تلك الأثناء كانت قد وصلت ستي إلى القصر متجهة نحو غرفة أختها لعيادتها والبحث عن حالها وصحتها . وما إن وصلت إلى الباب حتى رأت منظرا رهيبا اقشعر منه بدنها وطار له صوابها …! 
رأت أختها منطرحة من غير إحساس في لجة الدماء ! ورأت الأمير جالسا إلى جانبها يبكي وينتحب ..! 
فثارت في وجهه قائلة – وقد أيقنت أنها الغضبة الأخيرة قد عصفت برأسه فقتلها : 
’’ ماذا دهاك أيها الظالم …؟ ألم يشف غيظك كل ما أنزلته بهذه البائسة من ألوان العذاب حتى قتلتها وسفكت دمها ، وقد كانت ماضية بحالها إلى طريق الفناء والموت ..‘‘؟ 
فالتفت إليها الأمير وأجابها في كرب يكاد يخنقه : 
’’ كفى يا أختاه … لا تزيدي في ناري . لست بقاتل ، ولكنها غشية ..‘‘ 
ثم جلست الأخت والأخ من حول شقيقتيهما يحاولان ، وقد استبد بهما الجزع ، إنعاشها وإيقاظها دون أي جدوى . ومرت ساعات … وتجمع حولهما كل من في القصر من الأهل والأقربين وراحوا يحاولون إحياءها بشتى الوسائل وطرق العلاج ، دون أن يستفيدوا من أي نتيجة … 

الوصيّة

مر اليوم … وغربت شمسه ، وزين لا تزال على حالتها تلك منطرحة في غرفتها دون أي وعي ولا إحساس ، رأسها في حجر أخيها الأمير الذي لا يكاد يفلته البكاء ، والأهل والأقربون من حولها في حيرة وألم شديد . لا يدرون أهي غشية طال أمدها ، أم هو الموت والقضاء الأخير قد أنزل بها ! يجسون عروقها ، ويتلمسون حركة قلبها ، فتبدو حينا من الزمن وكأنها قطعة يابسة ليس في جهة منها أي حركة أو نبض ، ثم يعود فيخفق منها القلب ، وتضح صاعدا ونازلا في صدرها في ضعف وبطء ، وإذ ذاك تتهلل أسارير الوجوه المطرقة من حولها قليلا ، ويلبثون منتظرين رحمة إلهية تتداركها وتعيد إليها الروح والإحساس . 
وبينما هم في تلك الاثناء إذ دخل أحد الغلمان مسرعا يقول للأمير : 
’’ إن أحد حراس السجن جاء ليبلغ مولاي بأن ممو في حالة تشبه النزع .. فبماذا يأمر ؟؟ ‘‘ 
وما كاد اسم ممو يتلى في ذلك الجو الذي كانت تمر به أنفاس زين الصامتة ، حتى استنشقت منه الروح التي بعثتها من ذلك السبات الطويل ، وسرت رعشة عامة في جسمها ، وفتحت عينيها تنظر ما حولها … 
رأت أمامها رقعة كبيرة من الدكاء منبسطة في تلك الأرض ، ووجدت غرفتها غاصة من حولها بسائر الأقارب والأصحاب وحرم القصر ، يرمقونها بعيون ذارفة وملامح ملؤها الأسى والحزن ! وأبصرت أخاها الأمير جالسا من فوقها يبكي كأنه الطفل ..؟! 
فاستوت جالسة في اتكاء ، واستدارت بوجهها نحوه قائلة ، وقد تغيرت ملامحها ، وبدت على وجهها دلائل أحاسيس غريبة طارئة : 
’’ أتبكي أيها الأمير في يوم فرحي وعرسي …؟! 
أفي الوقت الذي تصبح فيه سببا لإسعادي أكون أنا سببا لبكائك وأحزانك ..؟ 
لقد انطلقت روحي يا مولاي منذ اليوم إلى السعادة التي طالما انتظرتها ، وبرح بها الشوق إليها ، استطاعت أن تطير إليها بعد أن أوليتها الإذن .. ومنحتها الرضا … وتقدمت نحوها بالعطف … 
في هذا اليوم انتهيتُ من سياحة طويلة قطعتها في خضم هذا الفناء المائح ، بعد أن يبست في قطعه سائر أطرافي وجوارحي وكابدت من أمواجه وعواصفه شدة كادت أن تصرعني …! 
وعليّ الآن وقد انتهيت إلى الساحل أن أقف فيه قليلا ، لأستروح . علي أن أقف هنا قليلا … قبل أن آخذ طريقي متجهة نحو الخلود الذي ينتظرني ، لأودعكم .. وأستسمحكم .. ولأتلو عليكم وصيتي يا مولاي …‘‘ 
ثم أسندت رأسها إلى وسادة ورائها – وقد أخذت ملامح الحاضرين تتلون بالحزن والأسى ، واستولى الوجوم والإطراق على المكان – وراحت زين تحدث أخاها ، وكأنها في حلم ، قائلة : 
’’ لا تأس .. يا شقيق قلبي وروحي …! 
لا تبك علي … فدتك مئة أخت من أمثال زين . 
لا تأس يا مولاي .. فقد تقبلت هذه الآلام والأسقام ، منذ اخترت ممو رفيقا لروحي . وقبل أن تمهرني الأقدار بالضنى والأحزان في سبيله ومن أجله . فالبؤس والهموم من أجل قلبي والسلطان والسعادة من قسمتك . 
أميري .. لا تنازعني اليوم في شيء من نصيبي ! فهي حصتي وأنا قانعة وراضية بها . عد أنت يا مولاي فاجلس على سرسر سلطانك ، وأمِلْ تاجك الدري على مفرق رأسك . أقم من حولك مجالس الطرب في تنظيمها الرائع ، وأدر فيما بينها أفراح الزمان وأنسه . أسكر السادة والغلمان بشراب نعيمك ، وليعد شباب اللهو والمرح مختالا في الشيوخ من جلسائك .هيئ على بساطك لذائذ الطعام والشراب ، ونظم من حوله كل أسباب الصفو والهناء ، وانثر بينه سائر أنواع العطور والمفرحات ، واجمع لذلك الندامى والأصحاب ، ولترقص بينهم البهجة بشتى ألوانها ، ولتتمايل من فوق رؤوسهم الورود والأغصان . 
فلقد استكملت يا مولاي في هذا اليوم روحانيتنا …وانتهت منا علائق الحيوانية والفناء ، وأزيحت عما بيننا حجبها وأستارها … نعم سوف يتوارى هذا الجسم بعد قليل في ترابه ، ولكن روحي لن يمنعها أي شيء من نعيمها ووصالها … 
أميري … ولا تنس أن تقيم أفراحنا كاملة .. فكلانا وإن أصبح روحانيا في ذاته ولكننا لا نزال نطرب .. ونميل إلى الطيبات والأفراح . 
أتذكر ذلك العرس البهيج الذي أقمته لأختي ورفيقها ، وكيف أزدهرت هذا البلدة إذ ذاك ضياءا وأنسا ..؟ إنني آمل منك يا أخي أن توليني مثل تلك الرعاية في يوم عرسي أنا أيضا … مُرْ هذه الجزيرة أن تعود فتمتطي خيول المرح ، وأرسل وراء رجالك وجندك ، يقيموا الأفراح والمهرجانات ، ولتعد نشوة الفرح والطرب تطوف بالرؤوس ، ولتتزين ثانية جميع الميادين والأزقة والأسواق . 
أخي … ولقد ضاق الوقت ، فلتحسن إلي في المبادرة بتدارك الجهاز وتهيئته ، فلا بد من إعداده ، لكي يلتحق ، منذ الآن . 
أتذكر يا مولاي صرح ستي .. ذلم الصرح الرائع المتألق …؟ 
إنني أحتاج إلى تابوت في مثل بهائه وتألقه … أريده من أفخر أنواع الأبينوس .. الأبينوس المنقوش وليكن غطاؤه في مثل روعته وأبهته ، مزدانا ومرصعا بوشي الذهب والفضة . ولتكن مظاهر الإحتفال والبهجة كاملة من حوله . 
أخي ، أتضرع إليك أن تحقق هذا كما أقول ، لا تدعني في يوم فرحي ممتهنة أمام الأنظار . لا يقولن الناس إذ يتوسطون المقبرة في تحسر وألم : كم كان عرس ستي يوما مشرقا من الدهر ، وكم كان طالع زين أسود حالكا منذ الأزل …! 
ثم دع شقيقتي يا مولاي هي التي تتولى تزييني وغسلي ، وتكون في رفقة نعشي وتوديعه . أما ممو فاترك له وفّيه المخلص هو الذي يغسله كما يشاء ويصاحبه إلى مقره الأخير ..‘‘
وسكتت قليلا كأنما تستروح من إعياء . 
ثم تابعت حديثها تقول : 
’’ فاذا كان بعد ذلك ، فأتم إحسانك لي يا سيدي ، وليمر عام كامل تطعم فيه البطون الجائعة وتكسو الأجسام العارية . اجمع حولك الفقراء والمساكين لتغنيهم وترأف بهم . ابحث عن التعساء والأشقياء لتواسيهم وتسعدهم . امسح يا أخي بعطفك دموع البائسين ، وفرج بمعروفك عن قلوب المكروبين . أطلق يد الأسرى والمسجونين ، وفك يد الظلام عن الضعفاء والمظلومين . أسرج بشيء من نعمتك طوايا النفوس المظلمة ، وادخل بلطفك القلوب الكبيرة . تدان إلى المفجوعين والمنكوبين لتؤنسهم ، وقربهم إلى مجلسك وسعادتك لتسري عن همومهم وأحزانهم . ابحث في طوايا الليل عن السادرين والباكين في ظلماته ، وفتش مع الشمس عن الهائمين في الفلوات ، الهاربين بآلامهم إلى الآكام والتلال ، فداو آلامهم وآس جراحهم بكل ما يمتد إليه طوقك وتصل إليه قدرتك . 
ولا تنس يا سيدي أن تقوم بكل هذا على نيتي ، وأن تصرفه من حساب جهازي دون أن تقسم شيئا من كلامي إلى حقيقة ومجاز . 
ثم أتوسل إليك بعد هذا في تنفيذ آخر سطر من وصيتي يا مولاي ، وهو أن لا تدع أي حاجز يقوم بيني وبين ممو في مقرنا الأخير . دعنا هناك يا أخي ، تنعانق في قبر واحد سعيدين منعمين ، تتلامس منا الأبدان التي أحرقها الحرمان وأذابها الشوق والفراق . 
أطلت عليك يا سيدي .. ولكن عذري أن الطريق أمامي طويل ، وحفرتي ، بعدت عنك ، بعيدة الغور ، ويوم الفراق قريب …‘‘ 
وهنا استبد الجزع والحزن بالحاضرين الذي كانوا يسمعون كلامها في ذهول وإطراق ، وتعالت الأصوات واشتد النحيب ، ولم تبق عين إلا انهمرت بوابل من الدموع . وتقدم منها الأمير باكيا ، ضمها إليه وقبل رأسها قائلا : 
’’ أقسم لك يا شقيقتي – وأنا أخوك الذي قسا ولم يرحم – أنني سأكفر عن ذنبي بكلما استطيع . سأقدم روحي ثمنا لجمعكما وسعادتكما . لن أدع والله أي شيء يفرق بينكما لا في الحياة ولا من بعدها ..‘‘ 
ثم تذكر ممو وحاله في السجن ، فكفكف دموعه والتفت إلى من حوله قائلا : 
’’ ولكن عليكم الآن أن تبادروا مسرعين إلى السجن لتروا ممو ولتكن معكم زين ، فأنا واثق بأنه ليس بنزع .. ولكنها غشية أو ألم قد انتابه ، وسيسري عنه حينما تتلطفون له في إدخال البشرى إلى قلبه رويدا رويدا وإخراجه من ذلك المكان ..‘‘ 

اللقاء الأخير

ساءت الحال بزين في تلك الليلة أكثر من ذي قبل بكثير ، فقد كان لتلك الغشية الطويلة التي انتابتها ، وتلك الدفقة الكبيرة من الدماء التي اندفعت من صدرها أثر كبير في إبادة بقية ما تحتفظ به في جسمها من طاقة واحتمال . 
ولكنها على الرغم من ذلك تحاملت على نفسها عندما سمعت من الأمير الإذن بإطلاق سراح ممو والأمر لمن حوله بالذهاب إليه وبالإسراع بإخراجه . فقامت ، فتزينت ، وأصلحت من شأنها ، ثم امتطت جواد وخرجت مع ذلك الجمع ، يؤمون في تلك الليلة سجن ممو … وكان فيهم اختها ستي ، وبعض من الاهل والأقربين ، وبعض خدم القصر وفتياته ، وقد حمل الجميع في أيديهم شموعا لتنير لهم الطريق . 
وانتهو إلى باب السجن المغلق .. وبادر الحارس الخاص ففتح لهم الباب .. وهناك تأخرت عنهم زين لكي لا يفاجأ ممو برؤيتها ، بينما أخذ الباقون يدخلون ، الواحد تلو الآخر في وجوم ورهبة .. إلى أن وصلوا إلى الدرج الذي يهبط إلى مقر ممو ، فنزلوا فيه . والشموع بأيديهم تبدد من حولهم الظلام ، وقد ساد الصمت والرهبة ، فلا يسمع إلا وقع الأقدام المتلاحقة على ذلك الدرج . ثم انتهوا إلى مكان ممو ، وقد بدا كالكهف الأصم ساكنا خاشعا تموج الوحشة في سائر جهاته وأطرافه . 
وراحت أعينهم تجول في المكان .. وإذ بممو ملقى فوق بساط رث مهلهل ظهر أنه قد اتخذه مصلاة له ، لا يترائى فيه أي أثر لإحساس أو روح ، وقد رق كل شيء منه حتى العظم ، وانطوت منه الملامح والهيئة التي كانوا يعرفونها ، وعاد كتلة من عظام رقيقة بارزة ، في غشاء من الجلد المتغضن ! 
والتفوا يسألون حارسه الخاص عن شأنه فأجاب بأنه رآه على هذه الحالة منذ الصباح الباكر عندما أتاه بطعام الإفطار ولم يستطع أن يعرف لذلك سببا سوى أن بعض من في جواره من المسجونين حدثوه بأنهم شعروا قبل ذلك بأحوال غريبة من حوله ، ولمحوا ضياء كبيرا يسطع من زنزانته قبيل الفجر ..! 
ولم يفدهم أي شيء من المحايلة وأنواع المنبهات والعلاج في بعثه من تلك الرقدة التي لم يكونوا ليعرفوا أهي إغماءة قد انتابته أم هي الرقدة الأخيرة والموت . وحينئذ جاءت زين فتقدمت نحوه ، جاءت لتقف أمامه وتحدثه .. ولكنها لم تتمالك ذلك إذ رأته ، وسرعان ما ارتمت عليه ، وراحت تهتف باسمه في جزع شديد ، ويبلل وجهه بدموعها الغزيرة . 
هناك .. دب الشعور إلى ممو ، وتفتحت عيناه ، وأخذتا تطوفان بالحاضرين في حركة باردة بطيئة .. تدل دلالة واضحة على أن الوقت قد فات .. وانكمش جسمه ، وراح يحاول الجلوس .. ثم استدار نحو القبلة دون أن يكلم أحدا ، وهوى ساجدا ..! بينما أخذ الجميع ينظرون إليه واجمين ، في حزن وألم . 
وبعد فينة رفع رأسه .. واستدار بوجهه نحو زين ينظر إليها في ذهول وصمت .. وفجأة .. دب شيء من الأمل في نفوس الحاضرين فقد أخذ يتكلم ..! 
قال لزين بصوت خافت متقطع ، وعيناه تزيغان في وجهها : 
’’ لقد كنتِ لي نعم الدليل ‘‘ 
فأجابت : ’’ لقد كنتَ لي نعم الخليل ..‘‘ 
فقال : ’’ أنتِ نعم السبيل إلى ربّي ..‘‘ 
فأجابت : ’’ أنتَ نعم السراج لروحي ..‘‘ 
فقال : ’’ أنتِ نور فؤادي ..‘‘ 
فأجابت : ’’ أنتَ إنسان عيني …‘‘ 
فقال : ’’ أنتِ سلطان روحي ..‘‘ 
فأجابت : ’’ أنت قبلة نفسي ..‘‘ 
وهنا انتبه أولئك الذين يسمعون منهما هذه المناجاة إلى أن ممو لم يعد يملك وعيه ، وأنه أخذ يغيب عن نغسه ، فدنت منه ستي وقاطعتهما قائلة : 
’’ لقد جئناك يا ممو لننقذك من هذا الذي أنت فيه ، لا لكي تتكادى في ذهولك وجنونك ّ إن الأمير الذي كان قد غضب عليك داخلته اليوم رحمة من أجلك ، وقد أرسلنا لإخراجك وتحقيق مرادنا . إن زينا التي جننت بها قد سعت إليك وها هي ذي واقفة أمامك كما تشتهي وتريد . إن الأمنية التي طالما تأملتها وغبرت شبابك في الحنين إليها قد أقبلت إليك ، إن الناس كلهم اليوم في فرح من أجلك ينتظرون خروجك إليهم ليستقبلوك ويهنئوك . 
فقم .. قم يا ممو لا يغلبنك هذا الهوى فتجن فيه ، لا يصرعنك ، من غير داع ، أمواج هذا الشوق فتغرق في عبابه . لا تذهب بقية عمرك في هذا الجنون بددا . لا تبع روحك اليوم رخيصة وقد تدانت إليها سعادتها . أعد إليك رشدك الذي طال معه خصامك ، وانفض عن رأسك هذا الجنون الذي طال بك تشبثه . 
قم لنذهب معا إلى الأمير .. فستراه اليوم ذا كرم و أفضال ، لقد هيأ من أجلك أسباب المسرة والأفراح ، وجمع لك الأحبة والأصحاب ، ولقد مذَ لك في قصره بساط السعادة في انتظار قدومك ليهنئك بزين ، وليقيم لأفراحكما الليالي والأعراس ..‘‘ 
ففتح عينيه قليلا وكأنما عاد إليه شيء من صوابه ، وراح يميل رأسه يمنة ويسرى قائلا : 
’’ لا .. أنا لا أذهب إلى أي أمير ، أنا لا أقف بباب اي حاكم أو وزير ، أنا لا أكون غلاما لأي عبد أو أسير . من هو هذا الأمير الذي لا يملك حياته ، ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه الفناء ، أو أن يضمن لعرشه البقاء ؟! أنا لا تغرني الشعبذة الكاذبة ، ولا يبهرني بريق الخيال الفاني . 
لقد انطلقنا إلى باب مولى السادة والعبيد ، واستقبلتنا رحاب سلطان الحكام والأمراء ، إنه السلطان الذي لا يفرق عدله بين غني وفقير وأمير وحقير . إنه مولى القلوب الكسيرة وولي النفوس الحزينة . لقد عقد هو بيننا بيمين لطفه ، وأقام أفراحنا في رحاب قدسه . 
فمعاذ الله أن نهبط اليوم إلى أكواخ الفناء ، أو نولي وجهنا شطر العبيد والأمراء ، معاذ الله أن نقيم عرسنا إلا في تلك الرحاب التي تنتظرنا ، وحاشا أن يجمعنا إلا مولى قلوبنا وخالق أرواحنا . 
ها هو ذا …لقد زين من أجلنا جنان روضاته ، وجمع لنا في جنباتها قدومنا ، ويستعدون للقائنا . إن هنالك الميعاد الأكبر لنا في ظل رحمته رحيق حبنا ، وسيسعدنا إذ ذاك مجتمعين برؤية وجهه .. سينسيانا ما ذاقناه من أوصاب هذه الدنيا وآلامها ، وسيسمح عن وجهينا قتام الدموع والزفرات ، وسيجبر كسرنا ، ويمحو بؤسنا . 
واشوقاه واشوقاه يا مولاي إلى اليوم الموعود …‘‘ 
وهنا سكت وأغمض عينيه . وكما يسرع فيطير من قفصه ذلك الطائر الأهوج الصغير الذي لا يفتأ مضطربا يترامى بجناحيه في جنباته ، إذ تمتد نحو بابه المغلق فتفتحه – أسرعت تلك الروح مغادرة ذلك القفص العظمي الذي طالما ظلت معذبة فيه وانطلقت تعلو إلى عليائها .. وكأن لم يكن شيء . 
فإنقلبت تلك الزنزانة إلى مأتم يتعالى فيه النحاب والعويل وارتمت زين على أرض ذلك المكان وقد خار كل قواها . وذهب الخبر في الساعة نفسها ينتشر في الجزيرة عن طريق بعض الحراس الذين أسرعوا ليخبروا الأمير ، قالوا فلم تبق دار إلا وانتشر فيها الحزن والكرب . وسهرت الجزيرة تلك الليلة بعين دامعة قريحة . وأسرع تاج الدين فخرج من داره ثائرا كالمجنون يتخبط مستعجلا قاصدا السجن الذي يضم خليله . 
وفي الطريق لمحت عيناه ’’ بكرا ‘‘ واقفا بين جمع من الناس على مقربة من القصر . فارتمى إليه كالسهم ، ولببه من خناقه بجمع يده ، وأخذ يصعق فيه والحنق مكتظ في وجهه ، وعيناه ترسلان إليه نظرات كالجمر ، قائلا : 
’’ أيها الإبليس المزور في لباس إنسان ، أيها الثعبان الذي لم ينفث حلقه إلا نار الفتنة والدمار . وقفت أصلب باب مغلق بين هذين المسكينين البريئين ، عشت أبلغ كيّ فوق جراحهما الداميين ، حرمت قلبيهما من نصيب هنائهما في الدنيا وحرمتني من إنسان عيني الذي ألفه البصر وفؤادي ! 
أيها الكلب العقور ، ما وقوفك اليوم على ظهر الأرض بعد أن غيبت خليلي في باطنها ؟! ‘‘
ثم رفعه بكلتا يديه ، فلوح به من فوق رأسه ، ثم طوح به في الأرض، فارتطم بها دماغه، فكانت القاضية. 
وتركه ملقى هناك . وأخذ يتابع طريقه إلى أن وصل السجن حيث راح مندفعا في ثورة جامحة يخترق زحام الناس واجتماعهم ، دون أن ينظر في وجه أحد ، إلى أن انتهى إلى جثمان صديقه الذي كان مسجى في مكانه كما هو ، فألقى عنه الغطاء وارتمى عليه كطفل صغير إذ يهوي في أحضان أمه .. أمه التي لم يعد فيها لأي إحساس أو حياة . فبكى ما وسع عينيه البكاء ! وانتحب ما استطاع حلقه النحيب .. ثم عاد وقد ازدادت ثورة أعصابه ، وتألقت عيناه في احمرار مرعب … وأخذ يرمي كل شيء من حوله بنظرات ثائرة ويتخيل كل من يراه تلقاءه سببا في هلاك ممو وموته . والتفت إلى الحراس الذين كانوا واقفين من حوله يصعق فيهم ، قائلا ، وقد وقف في بابا الزنزانة والشرر يتطاير من عينيه … 
’’ أقتلتموه أيها الأوغاد …؟ قتلتموه ، أليس كذلك . ولكن .. ولكني سوف أنتقم .. سأنتقم منكم أيها الأنذال .. 
سأهدم اليوم هذا السجن .. سأقوض أركانه ، وأجعله قبرا لذلك الأمير الذي بناه . أين أنت أيها الأمير ..؟ بل أين أنت أيها الجبان الذي خدعتني وقتلت خليلي . تعال لأنتقم منك ، لا بل سآتي أليك في قصرك لأجندلك منه صريعا ! ‘‘ 
وما لبثت هذه الكلمات النارية من الهذيان أن أحالت أمره إلى ما يشبه الجنون ، وراحت يده تمتدان إلى محاولة إهلاك كل من يراه أمام عينيه ممن يتخيل إليه أنه قاتل صديقه ممو ، لولا أن الأمير بلغه ذلك فأمر بتقييده وحبسه في مكان ما إلى اليوم التالي . وهكذا مرت تلك الليلة على أهل الجزيرة في جزع شديد وحزن أليم . بينما ظل تاج الدين ساهرا في السجن إلى جوار صديقه الراحل يقطع الحزن والبكاء فؤاده . 
أما زين فقد استطحبتها ستي إلى دارها وقد خار كل قواها وتحملها ، حيث سهرت مع جمع من الأهل من حولها يواسونها ويرأفون بقلبها إلى الصباح .

النِّهاية

أشرقت شمس اليوم التالي على جزيرة بوطان ، وقد عمها قتام من الحزن والكرب ، ودب سائر نواحيها وأسواقها الوجوم والكمد وكأنما تقلصت أشعتها فلم تعد تستطيع أن تبعث في جهاتها الرونق والبهاء الكاملين . حتى ذلك القصر المتألق الذي كان يصافح بهاؤه الشمس أول ما تبرز ، لقد سطعت عليه في ذلك اليوم وهو كامد ، يذري دموعا غزيرة علّها تطفئ نار ندمه وحسرته ولكن دون جدوى . 
وبعد قليل كانت قد امتلأت الطريق التي بين المقبرة ودار ممو بمعظم أهل الجزيرة من نساء ورجال وولدان لتوديعهم قيدهم البائس وتشييع جنازته . 
وكان موكبا غاية في الامتداد والضخامة ، تماما كذلك الموكب العظيم الذي امتد في أسواق الجزيرة يوم عرس تاج الدين ، ولكنه اليوم موكب أغبر قاتم لا تجد فيه بسمه أو فرحة عين . إنما هو الدموع والبكاء الذي لا ينقطع ، والعويل والصراخ الذي يتعالى من سائر أطراف الأسواق ونوافذ البيوت . 
وانتهى الموكب إلى المقبرة ، وكانت في رابية كبيرة من الروابي التي تحيط بالبلدة . فانبسطت فوقها الجموع من الناس ، وغطاهم سوادهم الكثيف . وازداد هنالك شعورهم بمعنى الموت والفناء وأخذت تلوح لأعينهم الحقيقة الراهبة الجاثمة من وراء خداع هذا الدهر وأوهامه ، وامتزج ذلك الشعور منهم بالحزن الذي كان قد استولى على افئدتهم للنهاية التي لاقاها ممو بعد كل عذاه وحرمانه ، فقامت فوق تلك الرابية مناحة رهيبة عمت الرجال والنساء وانجرف في تيارها الكبار والصغار . وظهرت زين بين تلك الحشود بقامتها الفارعة ووجهها البادي لأول مرة وانطلقت مندفعة في ثورة كالجنون نحو الحفرة التي وري فيها ممو وأخذو يهيلون فيها التراب . ولكن بعض ذويها عرقل عليها عجلتها وسير ها خشية أن تلقي بنفسها هناك أو يحدث لها أي أمر فوصلت إليه وقد طمه التراب وسوي من فوق القبر ، فانهارت عندئذ قواها وارتمت فوق ذلك الجدث تسكب دموعها فوق ترابه وتحدث من فيه قائلة : 
’’ أيها المالك لجسمي وروحي .. أيها الراحل …! 
يا من تركت بستانك ومضيت .. هاهو ذا بستانك ، وقد أينع وأثمر ، باقيا من غير راع وصاحب . فقل لي من ذا يجينيه اليوم من بعدك ويجوب فيه ..؟ وما بقاء ثمره ونضرته بعد أن غادرته ونفضت يديك منه ؟صحيح أن منظره بديع ، وظله وارف وجميل ، وثماره شهية يانعة ، ولكنها اليوم والله حرام لغير وجهك . 
لن أدع غير ريح الردى تجوب في خلاله ، ولن أترك سوى يد الهلاك والتلف تعصف بثماره ، سأهز جذع هذه النخلة فليتساقط جناها على الأرض ، وسأبدد ثمار هذه الأغصان والكروم فلتذر في مهب الرياح ، سأقوض جذوع هذه الأشجار النضرة وأفتت أوراق هذه الورود العطرة . 
هاتان العينان اللتان أعجبك سحرهما وجمالهما ، سأطفئ اليوم منهما هذا السحر والجمال . هذا القوام الذي أسكرك حسنه واعتداله سأحطم اليوم فيه هذا الحسن والاعتدال وسأريق الخمر التي كانت تعربد وتسكر . هذه الوجنات والشفاه ، هذه الأصداغ والشعور ، سأمحق من كل ذلك الفتنة التي سلبتك ، سأذرو على جميعه التراب والرماد ، وسأمرغه بالضنى والسواد ! فلقد كان جميعه نذرا لعينيك ووقفا لبصرك . أما وقد أغمضت عينيك ، فلن ؟أدع أي عين أخرى ترمقه وتتمتع به . 
ولكن … 
ولكن لا …! إن هذا تدخل فيما يس من ملكي وشأني …إنني أخشى أن تعتب علي في تصرفي بملكي الذي ائتمنتني عليه وأنك تحب استلام أمانتك كما عرفتها وملكتها … 
أولى بي إذاً أن أطوي هذا البساط كما هو ، وأن أسلمك الأمانة كما تركتها وأن أقوض إليك جسمي بكل زينته ورونقه …‘‘ 
ثم انكبت على القبر تعانقه وتتمرغ بترابه ، فأسرع إليها القوم الذين من حولها لينهضوا بها ويواسوا حزنها … ولكن أيديهم لم تقع إلا على جثة باردة جف منها آخر قطرة من الحياة …! 
هنالك عادت أصوات العويل والنحيب مرتفعة من جديد ، وطار الجزع والكرب بفؤاد الحاضرين كلهم ، وألقى الأمير نفسه على جثمانها وقد عدم وعيه ورشده ، يسترحم الأقدار أن تتراجع ولكن الأقدار لا ترحم ولا تجيب ولا تعود …! 
ثم إنهم جهزوها وشيعوها كما أوصت وأرادت ، وعادوا ففتحوا قبر ممو . وجاء الأمير يحمل أخته وعيناه تذرفان ، فنزل إلى القبر ومدها إلى جواره قائلا : 
’’ خذ حبيبتك يا ممو التي حجبتُها عنك حيا ، ولتسامحني في قسوتي عليك في الدنيا ، وفي جنايتي الكبرى على قلبك ، فلقد عاقبتني الأقدار بأكثر مما تريد … لقد عاقبتني بأبلغ كيّ من الندم في قلبي لن يندمل ما بقيت حيا ..‘‘ 
وهكذا حكم الدهر ألا يجتمع ذانك الحبيبان إلا في ظلمات تلك الحفرة .. وأن يتوارى أخيرا ذانك الكوكبان في برج واحد . 
أما بكر فالغريب أنه دفن هو الآخر قريبا منهما بل عند قدميهما مباشرة ! قالوا والسبب في ذلك ،وفي أن يلازمهما حتى فيما بعد الممات أيضا ، هو أن زينا حينما سمعت بنبأ قتل تاج الدين له اغتمّت لذلك وتألمت ألما شديدا . 
وقالت إنه لم يكن سيتحق شيئا من العقاب ، ولكن الأقدار هي التي سخرته لهما ليصفو حبهما هذا الصفاء الروحي ، ولتسمو نفس كل منهما إلى ما فوق مظاهر المادة وبرجها . 
ثم أوصت بأن يدفن قريبا منهما قائلة : إنه سيكون حاجبا مخلصا لنا في دارنا الآخرى …!
وهذان القبران معروفان في جزيرة بوطان إلى اليوم ، يستطيع كل من أراد أن يشاهدهما … 
والعجيب أن قبر ممو وزين يظل محاطا بسور من ظلال الأشجار والورود ، أما قبر بكر فلا تكاد تبارحه الأشواك التي تعلوه في غزارة .

خاتمة واعتبارْ

أي رب : 
أسألك بيحموم عشق المعذبين ، وبكمال صدق العاشقين … 
أسألك بحلاوة الجمال ونشوته ، وبعظمة الجلال ودهشته … 
أسألك بداء الهجر وعذابه ، وبشهد الوصال ولذة شرابه … 
أسألك بلذة حي العاشقين ، وبمرارة عداوة الرقباء والكائدين … 
أسألك بماء عيون البلابل والأطيار ، وبالندى المتساقط على الورود والأزهار … 
أسألك بما خلّفته ممو من وجد وزفرات ، وبما أسالته زين من دموع وحسرات … 
أسألك بكل ذلك يا مولاي أن تزيح عن عينيّ غشاوة هذه الظلال الفانية حتى لا أرى فوق صفحة الدنيا إلا قوة سلطانك ، ولكي لا أبصر في زجاجة مرآتها إلا رونق جمالك ، ولكي أسكر بالخمر نفسها ، لا بلون الكأس التي تترقرق فيها … 
أي رب : 
لقد آمنت بقوتك وجبروتك ، وأيقنت بنورك وبهائك . آمنت أن هذا الكون كله جسم وأنت روحه ، وأن هذا الوجود حقيقة أنت سرها … 
أنت حسن زينة الأحبة والعشاق ، وإلى جمالك ميل قلوبهم وهوى أفئدتهم وأبصارهم … 
أنت خلقت في الشهد حلاوته وطعمه ، وأنت الذي أوجدت في الدمع حرقته ولذعه … 
القلوب … أنت الذي ألهبتها بتأثير من عظمة جلالك … 
أشجار السرو الشاهقة ، أنت الذي خلقت في قامتها هذه البساقة والاعتدال … 
الورود الناعمة الحمراء ، أنت الذي أبدعت أكمامها من بين الأشواك القاسية الدامية … 
البلابل والأطيار ، أنت الذي ابتليت قلوبها الصغيرة بحسن تلك الورود وجمالها … 
تلون الأزهار وخضرة الأغصان ، أنت الذي بثثت فيما بينها روح الفتنة والجمال … 
صوت الهزار والعنادل ، أنت الذي أكسبته معنى الطرب والانسجام … 
كَحَلُ الأهداب الناعسة ، وسواد العيون المتألقة الباسمة ، وتهدل الشعور والتواؤها من حول الوجوه وفوق الأكتاف ، كل ذلك أقل من أن يغتي هذا السحر الذي يأخذ بالألباب لو لم تكن قد أمددته بفيض من كنه حسنك . 
عكست ، يا مولاي ، آيات عظمتك وسلطانك ومظاهر حسنك وجمالك على صفحة الكون الفانية ، وأذهلته القوالب والأشكال عن ملاحظة السر الرهيب دون أن ينتبه إلى حقيقة الشمس التي تسطع فيها ، وعاش مشغوفا مفتونا بذلك الببغاء وحديثه الآلي دون أن يلتفت إلى المصدر الأسمى الذي يخلق هذا الكلام في شفتيه . 
ومنهم من فتح عينيه ليستعيض عن الحلم الكاذب بالحقيقة الرائعة الجاثمة بين يديه ، وانشغل عن الصدى ليستمتع بالصوت الذي سيري من حوله ، واستدبر المرآة ليرى حقيقة الشمس التي تسطع أمامه ، ثم خرّ ساجدا لإله الجمال في الكون ، وخالق النشوة في الخمر ، ومبدع الرائحة في العطر !

أيها الساقي : 
إنني أبغى الوصول إلى سدة ذاك الجمال .. إنني أريد كأسا من شراب ذلك القدس . فتعال فانشلني من بن هذا القتام إلى هناك . 
تعال ويحك حدثني .. حدثني فإن غبش هذا السكر لا يزال متدجيا أمام عيني ، ولقد كاد أن يخنقني . 
حدثني ماذا ترى في هذا الكون ؟ قل لي ، أهو خيال يسري ، أم هو حلم نحن الذين نسري فيه …؟ ثم أنبأني إلى متى تظل عيناي معتصبتين بخمرك وكيف لي بأن ينتفض عقلي من غشاوة هذا الذهول بكؤوسك ؟ فلقد سأمت والله واحترقت ، وما أحوجني إلى أن أتنفس عن هذا الحلم الضارب أطنابه علي لأبصر بعينيّ التي طال شوقي إلى رؤيتها والنتهاء إليها . 
إنني أشعر أيها الساقي ، من وراء هذه الأوهام والخيالات التي من حولي بأسرار كثيرة ولكني لا أكاد أهتدي إليها ، وإنه ليتألق أمام عيني بين الفينة والأخرى بريق لامع ، يسطع من خلف هذا الضباب ولكن لا أستطيع اختراققه للوصول إليه ، وإنه لينتهي إلى سمعي من بين لغط هذا الكون وضجيجه صوت من السماء ما أروعه وأسماه ! ولكني لا أكاد من هذا الضجيج أتبينه … 
يا إلهي : مزق أمام عيني هذه الحجب المسدلة حتى أراك … 
يا إلهي : إقشع من حولي بصيرتي خمار هذه الدنيا وسكرتها حتى أهتدي إلى عظمتك التي تسير وتنفخ فيها الوجود والحياة … 
يا إلهي : أزح من أمامي صور الجمال الخالد .. جمال ذاتك التي أشرقت بها الدنيا وما فيها … 
يا إلهي : لا تحرم قلبي إذ يختفي وجيبه وتسكن دقاته من نصيب وافر من العشق والتعلق بهذا الجمال الباقي والسر العظيم … 

الفصل الأخير : مناجاة مع القلم

أيها الفارس الهائم في فلاة القرطاس ، متنكسا لمحو إشراقه ، مغرما بتسويد بياضه . حسبك ما سجلته من أخطاء ، وكفاك ما سودت من صفحات ، فقد آن لصريرك أن يهدأ ، وآن لك أن تعتدل و تترجل . 
لقد أكثرت ، أيها الراكب الأغبر المسنون ، من تقبيح هذه الصفحات الناصعة بسوادك ، ولقد بالغت في تشوه وجها بالخطوط والخيلان ورسوم ,, الباء ‘‘ و ’’ الدال ‘‘ . والخطوط مهما لطفت في دقتها أو جملت في نسخها ورونقها ، فإن من القبح أن يكثر رصفها ، ويعمّ على وجه القراطيس سوادها . ألم تر إلى الغَُرر ، كيف تغدو رائعة إذ تكون نتفا قليلة توحي بالفتنة وتعبر عما حولها من إشراق ، وكم تكون قبيحة إذ تعم الجبهة طولا وعرضا ، وتمتد من فوقها كامتداد الزمام …؟ 
أما الكلمات ومعانيها ، فمهما تعالت في الرتبة إلى مصاف الجواهر والدرّ ، فإن الإكثار جديرا بإنزالها إلى حضيض اللغو الذي لا قيمة له . ألم تر أن الدرّ إنما سمت قيمته لفقدانه ، وأن اللؤلؤ إنما زها بريقه في الأبصار لبعد مناله ؟ 
على أنك كم نفثت بين ذلك من خلط وأخطاء .. وكم تجاوزت به إلى الألوان من السهو والعصيان ، حررتها بلا روية وسجلتها من غير تأمل ! .. فقل لي ، من ذا يتولى اليوم مدحه وتحسينه ، بل من الذي يتحمل كل ذلك ممن يراه …؟ 
أيها العود الأجوف الرقيق : 
ماذا أفدتني إذا بريت منك هذا الرأس قلما سوى أخطاء رقمها منك هذا اللسان …؟ 
ماذا تركت لي فوق هذه الصفحات إلا آثارا من نشوة العصيان ونقوشا من ذكريات اللهو والآثام …؟ 
حسبك .. حسبك انصرافا إلى تسجيل ما تمليه عليك الأهواء ، وكفاك انهماكا في مظاهر اللهو والألعاب . فلقد آن أن تقلع عن كل ذلك تائبا نادما ، وآن أن تتبين طريق الحق لتسلكه مستغفرا باكيا ، وإلا فالنوبة من ورائك لاحقة بك ، ولعلها تفجؤك عما قريب ، فلا تفيدك حينئذ اليقظة والانتباه . 

ولكن القلم ما إن طرق سمعه هذا الكلام حتى هبّ ثائرا ، فامتطى صهوة الأنامل وقد سلّ لسانا كالسيف يقارعني به قائلا : 
أي أحمد : 
لو لم تكن أنت ذلك الخبيث الذي تصف ، لما برّأت نفسك عن إثم أنت صاحبه لتلصقه ببرائتي وضعفي ، ولعلمت أنني لم أكتب إلا الذي قلته ، ولم أرسم إلا ما تصورته . فالقول قولك حقا كان أم باطلا ، والفعل فعلك خطأ كان أم صوابا . 
أيها المتصرف فيما تتهمني به : 
إنك لتعلم أنني كنت عدما في طوايا التراب ، ثم أنبتتي الأقدار قصبا في عالم الرياض والبساتين ، تتمايل النسمات بقوامي الفارع يمنة ويسرة ، ليس لي صرير أسجل به قولا ولا صفير أبعث به لحنا . ثم عمدت إليّ فأبعدتني عن الأهل والأوطان واقتلعتني من بين الرفقة والأصحاب . فاتخذت مني قسما لتسجيل أقوالك .. واخترت قسما آخر لتصوير طربك وآلامك . نقلتني من بين روضتي ووطني إلى رياض الشوق والهجران ، وثقبت جهات من جسمي بكّ العشق والآلام . ثم رحت تنفخ فيه روحا من أنفاسك ألهبت مني الكبد والجوانح ، فكان كل بكائي من تعذيبك وإحراقك ، وكان جميع آهاتي لنفخك وأنفاسك . 
أنا جماد ضعيف أبكم ليس لي لسان ، وقصب يابس لا يتأتى مني أي نطق أو بيان ، ولكن أنت الذي اتخذتني إصبعا سادسا بين بنانك ، وأنت الذي جملت بي مجالس طربك وألحانك ، وأنت الذي سوّدت بس صحائف لهوك وعصيانك . وإلا فمنذا الذي سمع بأن الناي ينطق من غير نافخ ، أو أن القلم ينقش من غير كاتب …؟ 

أي رب : 
إنك لتعلم أن ’’ الخاني ‘‘ الضعيف إنما هو في قبضتك مثل هذا القلم المقيد المعذور . قلبه في يدك ، وجوارحه ملك لتصرفك .. أنت الآمر القوي وهو المأمور الضعيف . أنت المالك الغني وهو المملوك الفقير . ولئن كنت قد منحته يا مولاي في شؤونه بعض تصرف أو اختيار ، فلقد فوض ذلك أيضا إليك ، وتجرد من كل اختياره وتصرفه لسلطانك وأمرك . فهو بكل ما أوليته – سواء كان علما أم قلما أم عملا – ملك لأمرك ووقف لتصرفك وإرادتك . وهو وحقك يا مولاي لا يفرق بين نفع له وضر ، ولا يملك لنفسه سعيا إلى خير أو تجنبا عن شر … 
وهو على كل ما لطخه من صفحات كثيرة بمداد القبائح والآثام ، ليس له دونك من غرض أو قصد ، وليس له بغيرك أي طاقة أو حول … 
كل ما سطرته يا إلهي من أول سطر في صحائف حياتي إلى أخره إنما هو نتيجة خطك وتقديرك ، وإنها لسطور كثيرة قد حوت سجل ثلاثين عاما من عمري الذي مضى * … إذ كان التاريخ حينما انفكت روحي عن غيبها إحدى وستين وألفا . 
ولقد ناهزت اليوم العام الأربع والأربعين ، ولست أرى فوق كاهلي إلا ركاما من السيئات والآثام ، لا أجد بينها درهما من عمل صالح قدمته . 
رباه : 
كما وفقتني في نهاية هذا السِّفْر إلى الالتفات لعظمتك والتسبيح بحمدك ، أسألك أم توفقني في نهاية حياتي أيضا إلى التمسك بهديك والإيمان بلطفك وحكمتك … 

* كان هذا عمرأحمد خاني حينما ألف هذه القصة مع إضافة أربعة عشر عاما ، وهي أيام الصبا التي استثناها من سجل أعماله . فاذا أضيفت إليه كان أربعة وأربعين كما بين ذلك فيما بعد … 

أضف تعليق