وطني … قصيدة ٌ بيراع ِ الفؤادِ ِ نـُسَـطـِّرها

* وطني … قصيدة ٌ بيراع ِ الفؤادِ ِ نـُسَـطـِّرها *

21

 صلاح الدين عيسى – موسوعة جياي كورمنج

كثيراً ما تلحُّ علينا النفس ويدفعنا العقلُ الباطنُ لإشغال ِمقاعدنا في مراكب الرغبة وقطار الأماني … نجوبُ الأصقاع ونقطعُ الفيافي …. نغترفُ ـ ودون ارتواء ـ من كؤوس النشوة جُرعات ِ نعيم ٍ ولـذة ٍ ننشد هما على الدوام ، فمن الطبيعي دأبُ الإنسان لإشباع ما للنفس وما للجسد من احتياجات سنتها كل الأعراف ومجمل الديانات ، لكنه ، وفي خضم انشغالنا وشغفنا وانصياعنا لأهوائنا ، متحررين من عقال الحكمة والمنطق ، نـُفاجأ وقد كـُـدِّر صفونا ، وشرودٌ وإمعانٌ واسترسال في التفكير نجدُ أنفسنا عليه ، وما أن نحتكم إلى العقل ِ الواعي حتى تتملكنا القناعة بأنه ما مِنْ سعدٍ نقطف ثماره بينما يتسلق ُ أحدنا ظهور الآخرين وأكتافهم ، ومِنْ ثـَمَّ نقطع دابر الشك باليقين حينما نلفى السعادة كامنة في رخاء وهناء ينعم به أكثرية الأفراد الذين يشاركوننا العيش في جغرافية خصصت لممارسة طقوسنا الحياتية ، إذا ، فلا من بهجة أو من حبور يصيبهما المرء ونوائب الدهر مدراراً تهطل على رؤوس الآخرين وما من كرامة وعـزٍّ فيهما الأمة ، بينما القوي المتنفذ يصيب خرقاً في سفينة الحياة ، ولن نرقى البتة مادمنا نقدس الأنانية وما فتئنا نفضل العيش في أطر ضيقة ننشد التفرد ، وهل من غرابة أشدُّ من تبججنا وتهويلنا وتعظيمنا لإنجازات بذلنا لها من حناجرنا أكثر مما أراقته أبداننا من الدم والعرق ؟!. الــوطـن ، لفظ ٌ جميـلٌ محببٌ إلى قلوب أولئك الذين تُسَورهم جدرانه ….. إن همُ في حضنه تلفحهم حرارة الحب أو هم طاحت بهم رياح القهر والظلم والحرمان ، فألقت بهم في مشارق الأرض ومغاربها .

الوطن ، تاريخٌ عاشه الإنسان وحاضر يدفعه لمعانقة الحياة وغد يأمله تيسيراً وتذليلاً لمسالك العيش . كلنا يتقاسم ملكية الوطن دون اعتبار لحسب أو نسب أو غنى أوفقر وبلا أي حسبان لطغيان فئة منا على أخرى ، هو لنا أجمعين ، أم ٌّ رؤوم ، بالقسطاط تغمر أبناءها بالحب ، حضنٌ دافئ يمد أفئدتنا بوهج المحبة ، جذرٌ يضخ الدماء في أوردتنا ، فيجعلنا مندفعين غير هيابين ، نصارعُ ثالوثَ قهر ٍ وكبت ٍ وفاقة ٍ أثقلنا بالجراح .

الوطن ليس أهزوجة في تردادها لألسنتنا دون القلوب ، نهدف لضخ المال في محيطات أرصدتنا ، و لا دمية ً نلهو بها أو سلعة ً نتاجر بها أو رهاناً نأمل منه ربحاً وفيراً، الصبية وحدهم من ينشدون اللهو ، والخاسرون فقط من يتاجرون بالوطن ويزايدون عليه ، والضعة وقلة الشأن والواهنة أنفسهم وحدهم من يدخل الوطن في ميدان المقامرة . كفى بالمواطن ـ إن هو أراد الأنفة والعزة والإباء فامتشق حسام العلم والجد والعمل ـ تأطيراً للوطن بهالة من الرقي والحضارية ، وبغض النظر عن انتماءاتنا الفكرية والدينية والعرقية ، فإنــّا على كاهلنا يبني الوطن صروح المجد وينفض غبار الذل ، وهل من عزة تذكر أومن سؤددٍ نبلغه أو من إنجاز نحققه ، إلا برايات علم ٍوأكاليل غارٍ تشمخ فوق جبالنا وتلالنا وسهولنا وروابينا وبساتيننا الغناء ! ؟ .

21

اختلافنا في التفكير صحّيٌ هُوَ أكثر من تحزبنا لإيديولوجية واحدة تنبذ ُ وتحارب بل وتنفي كل الذين يخرجون عن الطوق الذي أثقل رقاب البشر وأفئدتهم . لا ضير في اختلاف أمزجتنا وخبايا أنفسنا وأنماط سلوكياتنا ولا في تصادم آرائنا وأفكارنا ، إن كنا على هَـدْي ِ سراج ِ الوطن نتلمسُ تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا ، فما أحيلى بستاناً يمتلئ بضروب من الأزهار وهلْ أبهى منْ وطن ٍ تجوبُ الأطيارـ بكل الألوان والأنواع والأحجام ـ سماءَه عازفة ًعلى أوتار المحبة ؟ حينما ننقادُ في حملات تشهير ٍ بالذين يسيئون للأرض والإنسان ، يبادرُ أولئك إلى جمع الأسلحة وشحذِ القوى وفبركةِ التهم ِووضع ِ هالة ٍ كبيرة ٍ قاتمة ٍ حولَ أسمائنا ، مشيرين بالبنان إلى عدوانيتنا للأرض والإنسان ، ملوثين كل نسمة نستنشقها ، مبددين كل جهد وكل قطرة دم نريقها أملاً في وطن ٍ حرٍّ أبيٍّ ، ولا أنكى من أنهم ، وباسم الوطنية يختلسون منا الحلم والبسمة والصفاء ويبتدعون في مسالك عيشنا عقبات ننشغل في تذليلها بينما هم على مائدة الوطن يسحقون الفضيلة ويلبسون العهر والمجون أثواب العفاف .

يظل أحدنا مهمشاً إلى ما شاء الله ، غريباً يمشي على أرضه ، بين ذويه وأحبته وخلانه ، لا من رفيق ٍ في رحلةِ عيش ٍ يتسارع الجميع لاقتناص الغنائم ، لا من شيء ، خلا صلابة مراس ٍ وقوة عزم ٍ وإرادة أبرمَ معها أحلافاً ومعاهدات دفاع . الله والوطن والرمز من المسلمات التي يحظر على المرء تناولها بالسوء كونها ـ ثلاثتها ـ تجعلنا ننعم بالأمان والاستقرار ، فالله ـ كما قال الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي ـ إن كان غير موجود ، فكلُّ شيء ٍ مباحٌ من أصغرِ الذنوب إلى أبشع ِ الجرائم ، وأما اقتناعنا بوجوده ، فإنه يبعدنا عن الطلاح ويجعلنا أكثر سمواً بالنفس ، أشد محبة وتفانياً في مد يد العون للآخرين ، أكثر رغبة في التجمل بخصال حميدة لم يفرضها الخالق على البشر إلا كونه رؤوفاً بعباده ، ينشد لهم ـ جلا جلاله ـ السكينة ورغد العيش في قطار الحياة السريع .

21

الوطن ، هو الإنسان ذاته بجميع مكوناته الفكرية والعرقية والفيزيولوجية ، فهل من سليم معافى يحارب مرابع طفولةٍ أهدته ذكريات تظلُّ كامنة ً في سرائر نفسه إلى أن تأفل شمسه ؟ أوَ يـُنـْكـِرُ أحدنا فضلَ جغرافية الوطن في تجميل أحاسيسنا ومشاعرنا ؟ وهل مِنا مَنْ يرغب في قطع شجرة أظلت بفيئها ولم تزل أجدادنا وآباءنا وأولادنا !؟ . لمْ يدخل ِ الوطنُ يوماً في نزاع ٍ أو سجال ٍ مع أبناء لا يستبدلهم بكنوز الأرض وثرواتها ، فلا مـِنْ خيار أمامَ الأسوياء مـِنْ أبنائه إلا تقديمُ الطاعة والولاء ، إنْ هم أرادوا العيش بطمأنينة ، وأما مَنْ تسولُ لهم أنفسهم نحرَ الأمن ِ والسلم ِ على مقصلة تشريعات استوحتها عقولهم الواهنة ، فلا مِـنْ بـُدٍّ في تلاحمنا أجمعين ، ننتزعُ الأشواك ، نقلمُ الأشجار، نفرشُ السهول والوهاد بالأزاهير والرياحين ، وبيراع ِ المحراث نخطط الأرض لتنفجرَ ينابيعُ العطاء ، وبالصوتِ الهادر، ملءَ الحناجرِ ننشد ” موطني ….الجلال والجمال والبهاء والسناء …. “

أضف تعليق