رحلة في غياهب المجهول

* رحـلــــــة ٌ في غـــيـاهـبِ الـمـجـهـــــولْ *

21

ضاقَ الوطن به ذرعاً ، هو فريسة العوز والفاقة ، حرمانٌ من الحنان والعطف والهواء والغذاء والدواء مذ أبصرت النور عيناه ، هو قد تشبث بالأرض التي شهدت ملاعب حبه وعشقه للحياة ، لكن الوطن ـ أفنى النفس منه قهراً ـ وأخيراً وبعد نفاذ الصبر خيره مابين الموت جوعاً أو قنصاً ، وهو وبعد كللٍ أصابه ، وبعد أن أصبح أثاث المنزل في الشارع ، قرر الرحيل وإيداع مكتبته التي كانت عالمه الجميل ، مع أثاث رغم إيحائه بالقدم لكنه كان ملتقى ذكرياته وموئل طقوسه الرائعة في بهاء عائلة سعيدة صغيرة قد كان فيها يعيش.

سيامند عبد الحميد ، رجل في العقد الخامس ونيف ، ترك الدرباسية وحط الرحال في اسطنبول ظناً منه بأن رغد العيش في الانتظار لكنه كالمستجير من الرمضاء بالنار ، صحيح أن الفناء عبر قناص أو قذيفة أو سجن لتهمة ما مصطنعة ، هي اليوم ليست في الحسبان ، لكن مواجهة أخرى مع الحياة والنائبات قد اعترضت مسار الحياة ، فلكي يعيش بكرامة في هذه المدينة الكبيرة كان لا بد له من البحث عن عمل يؤدي الغرض.

طرق باب الوالي كي يحصل على إقامة فأفهمه الموظفون أنه قد دخل البلاد بشكل غير شرعي فالإقامة تتطلب جواز سفر جديد عليه ختم للدخول عبر أحد المنافذ الحدودية ، استعان بالأوقاف للعمل كمدرس لتدريس العربية ومن جديد أبلغوه بضرورة وجود الإقامة .

على شاطىء البحر كان ملاذه حيث المناجاة والعتب ، كان يُعمل على الدوام عقله ، لم يجد من مناص إلا هذه العربة يتنقل وإياها في شوارع المدينة وكل حاوياتها تشهد زيارته حيث الأكياس الملقاة فيها يفتحها باحثاً عن علب السمنة ورب البندورة وزجاجات الماء والكرتون ، وبعد أن تمتلئ العربة بالمخلفات يتوجه بها إلى تجار افتتحوا مستودعات تعنى بعملية الشراء ونقلها إلى المعمل لإعادة تصنيعها من جديد.

سيامند ذو مؤهل جامعي عالٍ ( دبلوم دراسات عليا ) قد وهنَ الجسد منه فأفقده جر العربة والتنقل بها خمسة عشر كيلوغراماً من وزنه ، هو يتوق اليوم إلى بذة وربطة عنق كانت تزين محياه ، ولكن هيهات وأن يكون له ذلك وعمله بين القاذورات يمنعه من التأنق ، هيهات له ذلك وطقمه الوحيد قد تركه في الوطن مع الأثاث في خربة عند أحد المعارف .

 

صلاح الدين عيسى – موقع جياي كورمنج

أضف تعليق