كهف ( دُودَري) şikefta Dû derî

حلب أقدم مدينة في التاريخ .. آثار يعود تاريخها إلى 100.000 سنة  و ذلك من خلال كهف دودري
«20 بعثة أثرية » تعمل في مجال التنقيب الأثري
و« 360 » تلاً أثرياً مسجلاً ، وأكثر من « 500 » موقع غير مسجل
حوار مع الأستاذ الدكتور يوسف كنجو ، مدير المتاحف والآثار بحلب سابقاً
رئيس شعبة التنقيب في مديرية آثار ومتاحف حلب « سابقاً »
أجرى الحوار عامر رشيد مبيض ، مؤرخ حلب عالم آثار Aleppo
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ تُعدُّ محافظة حلب ومحيطها الأقدم في العالم ، ويدل على ذلك الاكتشافات الأثرية المتعددة التي اكتشفت حديثاً في مواقع متنوعة . حيث تعمل حالياً ومنذ ما يزيد على 30 عاماً أكثر من عشرين بعثة أثرية ، ويوجد أكثر من بعثة تبحث في فترة تاريخية محددة بحيث تغطي هذه البعثات كل المناطق المحيطة بالمحافظة ، وهناك تنقيبات في قلب المدينة . إن المعلومات التي تنتج عن التنقيبات الأثرية هي غاية في الأهمية كونها تعطي الدليل والبرهان على وجود الحضارات والسكن ، وهذه الدلائل والبراهين ما هي إلا نتاج مادي وثقافي لحصيلة الأعمال الثقافية والعقائدية التي تسود في حقبة زمنية ما ، وهي برهان عملي للنظريات التاريخية ، فلا يمكن أن نستنج أو نقول بوجود حضارة من دون منتجاتها . وعلى كل حال ما يتمّ الكشف عنه في مجال البحث الأثري هو فقط مراكز الاستيطان ، فلا يمكن التنقيب على مساحة واسعة من الأرض ، وبالتالي يجب علينا التصور بأن ما تنتجه عمليات التنقيب الأثري ليس مقتصراً على البقعة الجغرافية المنقّب بها وحسب ، وإنما تمتد حدود الموقع إلى أبعد من ذلك ، وللوقوف على حدود ومساحة الموقع والانتشار الحضاري نلجأ إلى ما يُسمّى المسح الأثري ، وهذا الأخير الذي يحدد اتساع حدود الممالك والحضارات في العصور المختلفة من الناحية الأثرية .
ـ لقد جذبت محافظة حلب علماء الآثار منذ ما يزيد على مئة عام وذلك نظراً لغناها بالمواقع الأثرية حيث يوجد فيها « 360 » تلاً أثرياً مسجلاً ، وعلى ما يزيد على « 500 » موقع غير مسجل ، وكانت المنطقة المركزية في شدّ الانتباه هي منطقة الفرات التابعة لمحافظة حلب التي تزخر بمواقع التنقيب الأثري التي تعود إلى فترة اكتشاف الزراعة وتدجين الحيوان ، كموقع « جعدة المغارة » الذي يعود تاريخه إلى « 8700 ق. م » ، والذي اكتشف فيه أقدم لوحة فنية ، وبدايات تأسيس المعابد الأولى ، حيث وجد منزل دائري بُني على شكل جمجمة ثور ، وعلى هذه الجمجمة المبنية من الحجارة والطين رُسمت أقدم لوحة فنية في سورية ، وهي عبارة عن أشكال هندسية ملونة بثلاثة ألوان طبيعية هي الأحمر والأسود والأبيض . كما عثر في موقع « جعدة المغارة » على تمثال صغير للإلهة عشتار هو الأقدم حتى الآن ، وهذه الاكتشافات حديثة جداً ، تعود لعام 2006م . وما يزال العمل مستمراً للكشف عن المزيد . وفي « تل حالولة » القريب من « جعدة المغارة » ظهر فيه كيف أن الإنسان استقر في المنطقة ، ودجَّنَ الحيوان ، وزرع الحبوب التي مازلنا نتذوق طعمها حتى الآن ، وأسَّسَ القرية المتطورة مدنياً ، حيث شوهد كيفية تنظيم البيوت المتكاملة بكافة أجزائها أي أنها تحتوي على الموقد ، والتنور ، والمخزن خلف المنزل ، فضلاً عن مكان مُخصَّص للدفن ضمن المنزل ، وكل منزل يوجد بشكل موازٍ مع الآخر ، وهناك طرقات تفصل بين المنزل والآخر لتشكيل ليس نموذج القرية المتطورة ، وإنما هذا التنظيم يرقى إلى مستوى المدينة ، ومن ثم استنتجَ العلماء وبالاعتماد على اللقى الأثرية في هذا الموقع كيف تعاون المجتمع لتشكيل قوة اقتصادية واجتماعية نتج عن هذا التعاون اكتشاف الزراعة وترويض الحيوان ، وهذا النموذج حسب رأي العلماء الإسبان الذين يعملون في الموقع منذ عام 1989 حتى الوقت الحالي الذي أسسته المجتمعات في حوض الفرات انتقل ووصل إلى أوربا والعالم منذ ما يزيد على 2000 عام ، أي المجتمعات التي سكنت الفرات تطورت قبل مثيلاتها من العالم بألفي عام ، ويعود تاريخ هذا الموقع إلى الألف السابعة ق.م ، ويقع جنوب شرق محافظة حلب .
ـ إلا أن الموقع الأهم بالنسبة لمحافظة حلب في هذا المجال هو « تل القرامل » والذي يقع على بعد20 كم ، إلى الشمال من مدينة حلب ، وعلى ضفاف نهر قويق المار من نصف مدينة حلب ، ويعود تاريخه إلى الألف العاشرة قبل الميلاد واكتشف فيه أقدم قرية في المنطقة حيث بنيت من البيوت الدائرية واستعمل فيها الطين والحجر معاً لأول مرة في التاريخ ، لتشييد البيوت الطينية التي ما تزال تستخدم في ريف حلب الجنوبي والشرقي ، كما اكتشف العشرات من اللوحات الحجرية الفنية التي رسمت عليها أجمل اللوحات الفنية الرمزية في العصور التي زاد عددها على مئة وخمس وعشرين قطعة صور من خلالها الإنسان والبيئة المحيطة به ، والمعتقدات التي كان يؤمن بها .
ـ ونذكر في هذا المجال أنه عادة ما يكتشف في الموقع على عدد قليل من الحجارة المزخرفة وهي نوع خاص من الحصى النهرية المسماة « الكلورايت » في كل موقع لا يتجاوز العشرة إلى العشرين بينما في « تل القرامل » تجاوز الـ « 125 » قطعة حجرية فنية ، وهي معروضة في متحف حلب ، وهذه اللوحات أطلق عليها العلماء ثورة الرموز . كما أشار العلماء تجاوزاً إلى بدايات الكتابات الأولى التي شقّت الطريق إلى الكتابة المسمارية . كما اكتشف هنا برج ، قطره « 3م » ، وعرض جداره الـ « 2م » بالإضافة إلى معبد له شكل إهليليجي في داخله عثر على تمثال للآلهة الأم ، فضلاً عن المعبد والبرج اللذين يعتبران الأقدم في العالم ، وتستمر الحفريات في الموقع للكشف عن المزيد ، وتؤكد حفريات « تل القرامل » أن الحضارة التي ازدهرت في بلاد مابين النهرين لم تكن حكراً على هذه المنطقة، وإنما انتشرت في مناطق بعيدة داخل سورية مروراً بحلب . وتعمل في هذا الموقع بعثة سورية بولونية منذ عام 2000 حتى الآن . كما يوجد موقع آخر على نهر قويق يعود إلى الألف السابعة قبل الميلاد وهو يقع على بعد 15 كم، جنوب محافظة حلب .
ـ الموقع الأهمّ والأقدم في محافظة حلب :
يُعدُّ موقع كهف الدودرية الذي يقع إلى الشمال من محافظة حلب ، حيث اكتشف فيه أقدم هيكلين عظميين لطفلين في الشرق الأوسط ينتميان إلى إنسان « النياندرتال » ، وهو يُعدُّ الاكتشاف الأهم من الناحية الأثرية في سورية ، والوطن العربي ، وهو اكتشاف فريد من نوعه على مستوى العالم كون الهيكلين العظميين محافظاً عليهما ، ولم يتأثرا بفعل الزمن . كما اكتشف في هذا الكهف بوادر سكن للحضارة « النطوفية » ، وهو عبارة عن بيت نصف دائري ضمن الكهف ويعود تاريخه إلى 12500 ق.م . إن هذه المواقع التي تمّ ذكرها ما هي إلا دليل على أن حلب ومحيطها قد سُكنا منذ أقدم العصور، وذلك حسب نتائج التنقيبات الأثرية ، وشهد بذلك الباحثون الأجانب الذين عملوا في محافظة حلب ، وما ذلك إلا الشيء اليسير حيث إن أيادي المنقبين ومعاولهم لا تصل إلا إلى القليل جداً من الأماكن الأثرية .
ـ محافظة حلب الأقدم أثرياً :
تنفرد محافظة حلب من الناحية الأثرية عن أية مدينة أخرى من ناحية كونها الأقدم أثرياً ، ومن جهة تنفرد بتنوعها الثقافي عبر التاريخ وهذا أيضاً يشهد عليه التنقيب الأثري حيث يعمل في مدينة حلب ما يزيد على 20 بعثة أثرية في مجال التنقيب الأثري ، أي أن هناك المئات من المواقع الأثرية التي تعود إلى كل حقبة زمنية منذ عصور ما قبل التاريخ حتى الوقت الحالي . ويمكن أن نشير فقط إلى إحصائية بسيطة جداً في هذا المجال ، فمثلاً في فترة عصور ما قبل التاريخ تعمل خمس بعثات « يابانية ـ إسبانية ـ فرنسية ـ بولونية ـ سورية » وفي الحقبة البرونزية تعمل ثماني بعثات « فرنسية ـ إيطالية ـ بلجيكية ـ دانمركية ـ إنكليزية ـ أمريكية ـ وثلاث بعثات من ألمانيا » . وفي الحقبة الكلاسيكية عدة بعثات منها « استرالية ـ لبنانية سورية » ، وفي الفترة الإسلامية بعثتان « فرنسية ـ أمريكية » . إن غزارة التنقيب الأثري المشار إليه يدل على أهمية الموقع الجغرافي منذ القدم ، والذي كان محطّ أنظار مختلف الشعوب ، كما هو محطّ أنظار علماء التاريخ والآثار .
ـ أخيراً إن تزايد البناء العمراني ضمن قلب مدينة حلب حرمنا من المعلومات الأثرية الهامة ، إلا أن مرور نهر قويق من قلب المدينة والعثور على ضفافه وبالقرب من المدينة على دلائل تعود إلى الألف العاشرة قبل الميلاد في « تل القرامل » ، والتنقيبات الأثرية التي قام بها الدكتور أنطوان سليمان في منطقة باب الفرج ، والأنصاري ضمن مدينة حلب دلّتا على استيطان بشري يعود إلى الألف الثالثة قبل الميلاد ، وعُثر هنا على مدافن وأبنية ولقى أثرية متنوعة ، وكذلك الأمر في أن المشاريع الحديثة التي تقام في وسط مدينة حلب منطقة باب الفرج تبين أن سماكة الطبقات الأثرية تزيد على عشرة أمتار ، وهذا مؤشر أثري تاريخي يدل على قدم السكن في هذه المدينة . هذه الاكتشافات فقط تدل على أن حلب هي الأقدم في العالم من حيث بداية السكن في موقعها الجغرافي .
ـ إن هذه الاكتشافات الحديثة تُبرز القدم التاريخي لمحيط مدينة حلب وننتظر المزيد من الاكتشافات في كل المواقع الأثرية التي ينقب بها والتي حتماً ستعطي في المستقبل القريب دلائل أثرية تدل على أن لمدينة حلب قدماً تاريخياً أكبر ، وذلك مع استخدام تقنيات حديثة وتأسيس كادر وطني مهتم بتاريخ محيط حلب في فترة عصور ما قبل التاريخ .
ـ أهم كشف أنثروبولوجي في العالم كان في محافظة حلب :
إنَّ أول ميزة تميزت بها مجتمعات « النياندرتال » في المشرق العربي القديم أنها امتلكت خصوصية وأصالة تميزت بها عن الثقافات « النياندرتالية » في إفريقيا وأوربا .
يقول الدكتور سلطان محيسن في كتابه « الصيادون الأوائل » : « إن الحياة الروحية عند إنسان النياندرتال تفوق في مستواها حياته الاقتصادية … وإن أهم كشف أنثروبولوجي حصل في التسعينيات من القرن العشرين سواء في سورية أو في العالم ، كان الهيكل العظمي لطفل نياندرتالي ، عثر عليه في الطبقة « 8 » من السوية الجيولوجية الثالثة » في منطقة « الدودرية » في محافظة حلب .
ـ إن كهف « الدودرية » هو واحد من مكتشفات عديدة نتجت عن مسح استطلاعي سوري ياباني بعمق « 60م » وبأقصى عرض « 40م » ، ويعدُّ أكبر كهف يعود للعصر الحجري القديم تمّ اكتشافه في 23 آب 1993 في محافظة حلب . وبشراكة فريق سوري ياباني للتنقيب تمّ اكتشاف بقايا مستحاثة إنسانية في الكهف . إن العظام التي وُجدت في هذا الكهف الضخم في منقطة « الدودرية » ، تعود لطفل « نياندرتالي » عاش في العصر الحجري المتوسط . وقد تمّ تقدير عمر الطفل بحوالي سنتين . وبالرغم من اكتشافاتٍ عدّةٍ لإنسان « نياندرتال » في العالم ، فإن عظام الطفل المكتشفة في محافظة حلب بالغة الأهمية ، فلأول مرة يكاد يكون هيكلاً عظمياً كاملاً اكتشف في مدفنه الأصلي . ولهذا فإن موقع « الدودرية : ذات البوابتين » في محافظة حلب يُعدُّ من أهم المواقع « النياندرتالية » في المشرق العربي القديم ، حيث عثر فيه أيضاً على 70 قطعة عظمية بشرية تعود لهياكل « نياندرتالية » مختلفة . وفي 23 آب 1993 ، تمّ العثور على هيكل عظمي لطفل عمره سنتان وطوله 82 سم ، حيث دفن في حفرة مستلقياً على ظهره ، أما يداه فممدودتان وقدماه مثنيتان وعثر تحت رأسه على بلاطة حجرية ، كما على صدره . ويعود تاريخه إلى حوالي 100.000 سنة « مئة ألف سنة » . وفي عام 1997 ، عثر في موقع « الدودرية » في محافظة حلب على هيكل عظمي لطفل ثان بالعمر نفسه ، وقد دلت طرق الدفن على أسلوب منظم ومدروس ويرقى إلى حوالي « 80.000 » سنة . وهذا الكشف يمثل حتى الآن أقدم عملية دفن للموتى في التاريخ البشري . حيث عُثر في الكهف على هيكلين عظميين … دفنا وفق شعائر وطقوس معينة .

 

أضف تعليق